صفحة جزء
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ، ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله يعظكم لعلكم تذكرون ، فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنن القرآن ، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبين لكل شيء ، ولا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا ، وهو ما بايعوا عليه النبيء صلى الله عليه وسلم مما فيه : أن لا يعصوه في معروف . وقد كان النبيء صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكة .

وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى ، مثل النصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة ، ومثل بيعة الحديبية .

[ ص: 261 ] والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة ، وإضافة العهد إلى الله ; لأنهم عاهدوا النبيء صلى الله عليه وسلم على الإسلام الذي دعاهم الله إليه ، فهم قد عاهدوا الله كما قال إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، وقال من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، والمقصود : تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله ، و ( إذا ) لمجرد الظرفية ; لأن المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة ، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء ، فالمعنى : أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد ، والقرينة على ذلك قوله ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا .

والعهد : الحلف ، وتقدم في قوله تعالى الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه في سورة البقرة ، وكذلك النقض تقدم في تلك الآية ، ونقض الأيمان : إبطال ما كانت لأجله ، فالنقض إبطال المحلوف عليه لا إبطال القسم ، فجعل إبطال المحلوف عليه نقضا لليمين في قوله ولا تنقضوا الأيمان تهويلا وتغليظا للنقض ; لأنه نقض لحرمة اليمين .

و بعد توكيدها زيادة في التحذير ، وليس قيدا للنهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة ، وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية .

و ( بعد ) هنا بمعنى ( مع ) ، إذ البعدية والمعية أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي :


بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما دفنتم بصحراء الغمير القوافيا

أي لا تذكروا أنكم شعراء ، وأن لكم شعرا ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغمير . وقوله تعالى بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، وقوله الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .

[ ص: 262 ] والتوكيد : التوثيق وتكرير الفتل ، وليس هو توكيد اللفظ كما توهمه بعضهم فهو ضد النقض ، وإضافته إلى ضمير الأيمان ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ، ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدد بل الاسم ، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام ، أي التوكيد الثابت لها المختص بها ، والمعنى : بعد ما فيها من التوكيد ، وبينه قوله وقد جعلتم الله عليكم كفيلا .

والمعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها . وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه ، وهو ما سموه يمين اللغو ، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني .

ويؤيد ما فسرناه قوله وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الواقع موقع الحال من ضمير ( لا تنقضوا ) ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلا على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه ، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم : فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد ، ولذلك سمي الحلف شهادة في مواضع كثيرة ، كقوله فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والمعنى : أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النهي عنها .

والكفيل : الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه .

والمعنى : أن القسم باسم الله إشهاد لله ، وكفالة به ، وقد كانوا عند العهد يحلفون ، ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ ، قال الحارث بن حلزة :


واذكروا حلف ذي المجاز وما قـ     ـدم فيه العهـود والـكـفـلاء

و ( عليكم ) متعلق بـ ( جعلتم ) لا بـ ( كفيلا ) . أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل ، أي فهو الكفيل ، والمكفول له ، من باب قولهم : أنت الخصم والحكم ، وقوله تعالى وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه .

[ ص: 263 ] وجملة إن الله يعلم ما تفعلون معترضة ، وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطلع على ما يفعلونه ، فالتوكيد بـ ( إن ) ; للاهتمام بالخبر .

وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال : إن الله عليم ، ولا : قد يعلم الله .

واختير الفعل المضارع في يعلم وفي تفعلون ; لدلالته على التجدد ، أي : كلما فعلوا فعلا فالله يعلمه .

والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله وأوفوا بعهد الله إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الإيمان ، وعدم الارتداد إلى الكفر ، وسد مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين ، إذ يصدونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصد ، كقولهم نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، كما أشار إليه قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا إلى الله بأعلم بالشاكرين ، وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام .

ولم يذكر المفسرون سببا لنزول هذه الآية ، وليست بحاجة إلى سبب ، وذكروا في الآية الآتية ، وهي قوله من كفر بالله من بعد إيمانه أن آية وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي ، فجعلوا بين الآيتين اتصالا .

قال في الكشاف : كأن قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش ، واستضعافهم المسلمين وإيذانهم لهم ، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله اهـ ، يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله إنما يبلوكم الله به تنبئ عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبأهم الله بها وحذرهم منها فسلموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية