صفحة جزء
[ ص: 292 ] من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم . لما سبق التحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه ، وأن لا يغرهم ما لأمة المشركين من السعة والربو ، والتحذير من زلل القدم بعد ثبوتها ، وبشروا بالوعد بحياة طيبة ، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التمسك بالقرآن والاهتداء به ، وأن لا تغرهم شبه المشركين ، وفتونهم في تكذيب القرآن ، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان ، فالكلام استئناف ابتدائي .

ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام ، والذين أسلموا ، فلذلك رد عليهم بقوله قل نزله روح القدس إلى قوله ليثبت الذين آمنوا ، وكانوا يقولون إنما يعلمه بشر فرد عليهم بقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي .

وكان الغلام الذي عنوه بقولهم إنما يعلمه بشر قد أسلم ثم فتنه المشركون فكفر ، وهو ( جبر ) مولى عامر بن الحضرمي ، وكانوا راودوا نفرا من المسلمين على الارتداد ، منهم : بلال ، وخباب بن الأرت ، وياسر ، وسمية أبوا عمار بن ياسر ، وعمار ابنهما ، فثبتوا على الإسلام ، وفتنوا عمارا فأظهر لهم الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وفتنوا نفرا آخرين فكفروا ، وذكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن منبه بن الحجاج ، وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله في سورة العنكبوت ، فكان من هذه المناسبة رد لعجز الكلام على صدره .

[ ص: 293 ] على أن مضمون من كفر بالله من بعد إيمانه مقابل لمضمون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فحصل الترهيب بعد الترغيب ، كما ابتدئ بالتحذير ; تحفظا على الصالح من الفساد ، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد ، وفتح باب الرخصة للمحافظين على صلاحهم بقدر الإمكان .

واعلم أن الآية - إن كانت تشير إلى نفر كفروا بعد إسلامهم - كانت ( من ) موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر فعليهم غضب من الله ، وقرن الخبر بالفاء ; لأن في المبتدأ شبها بأداة الشرط ، وقد يعامل الموصول معاملة الشرط ، ووقع في القرآن في غير موضع ، ومنه قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ، وقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة إلى قوله فبشرهم بعذاب أليم في سورة براءة ، وقيل : إن فريقا كفروا بعد إسلامهم ، كما روي في شأن جبر غلام ابن الحضرمي ، وهذا الوجه أليق بقوله تعالى أولئك الذين طبع الله على قلوبهم الآية .

وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر ، ولذلك تكون ( من ) شرطية ، والشرط غير مراد به معين بل هو تحذير ، أي من يكفروا بالله ; لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع ، ويكون قوله فعليهم غضب من الله جوابا .

والتحذير حاصل على كلا المعنيين .

وأما قوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهو ترخيص ، ومعذرة لما صدر من عمار بن ياسر ، وأمثاله إذا اشتد عليهم عذاب من فتنوهم .

وقوله إلا من أكره استثناء من عموم من كفر ; لئلا يقع حكم الشرط عليه ، أي إلا من أكرهه المشركون على الكفر ، أي على إظهاره [ ص: 294 ] فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده ، وهذا فريق رخص الله لهم ذلك كما سيأتي .

ومصحح الاستثناء هو الذي قال قول الكفار قد كفر بلفظه .

والاستدراك بقوله ولكن من شرح بالكفر صدرا استدرك على الاستثناء ، وهو احتراس من أن يفهم أن المكره مرخص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه .

و ( من ) شرح معطوف بـ ( لكن ) على من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ; لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت ، فحرف ( لكن ) عاطف ، ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق .

واختير ( فعليهم ) غضب دون نحو : فقد غضب الله عليهم ; لما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات ، أي غضب لا مغفرة معه .

وتقديم الخبر المجرور على المبتدأ ; للاهتمام بأمرهم ، فقدم ما يدل عليهم ، ولتصحيح الإتيان بالمبتدأ نكرة حين قصد بالتنكير التعظيم ، أي غضب عظيم ، فاكتفى بالتنكير عن الصفة .

وأما تقديم ( لهم ) على عذاب عظيم فللاهتمام .

والإكراه : الإلجاء إلى فعل ما يكره فعله ، وإنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمله طاقة الإنسان من إيلام بالغ ، أو سجن ، أو قيد ، أو نحوه .

وقد رخصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفر في عرف الناس من قول ، أو فعل .

وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر ، فقالوا : فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر ; لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ، ومصانعة بعد أن كان مسلما ، وقد رخص الله ذلك رفقا بعباده ، واعتبارا للأشياء بغاياتها ومقاصدها .

[ ص: 295 ] وفي الحديث : أن ذلك وقع لعمار بن ياسر ، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فصوبه ، وقال له : وإن عادوا لك فعد وأجمع على ذلك العلماء ، وشذ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر حكم الكفار في الظاهر كالمرتد فيستتاب عن المكنة منه .

وسوى جمهور العلماء بين أقوال الكفر ، وأفعاله كالسجود للصنم ، وقالت طائفة : إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها ، ونسب إلى الأوزاعي ، وسحنون ، والحسن البصري ، وهي تفرقة غير واضحة ، وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سوى القلب .

وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا ، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع .

وأما في الاعتداء على الناس من ترتب الغرم فبين مراتب الإكراه ، ومراتب الاعتداء المكروه عليه تفاوت ، وأعلاها الإكراه على قتل نفس ، وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل ; لأن التوعد قد لا يتحقق ، وتفوت نفس القتيل .

على أن أنواعا من الاعتداء قد يجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطئ بين المكره والمكره ؛ ولهذا كان للمكره بالكسر جانب من النظر في حمل التبعة عليه .

وهذه الآية لم تتعرض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقه المحض ، وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد ، والخلاف في طلاق المكره معلوم ، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع ، وبعض التفاسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية