صفحة جزء
[ ص: 318 ] ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ثم ) للترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة على مضمون ما قبلها ; تنويها جليلا بشأن النبيء صلى الله عليه وسلم ، وبشريعة الإسلام ، وزيادة في التنويه بإبراهيم عليه السلام ، أي جعلناك متبعا ملة إبراهيم . وذلك أجل ما أوليناكما من الكرامة ، وقد بينت آنفا أن هذه الجملة هي المقصود ، وأن جملة إن إبراهيم كان أمة إلخ تمهيد لها .

وزيد أوحينا إليك للتنبيه على أن اتباع محمد ملة إبراهيم كان بوحي من الله ، وإرشاد صادق ; تعريضا بأن الذين زعموا اتباعهم ملة إبراهيم من العرب من قبل قد أخطأوها بشبهة مثل أمية بن أبي الصلت ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، أو بغير شبهة مثل مزاعم قريش في دينهم .

و ( أن ) تفسيرية فعل أوحينا ; لأن فيه معنى القول دون حروفه ، فاحتيج إلى تفسيره بحرف التفسير .

والاتباع : اقتفاء السير على سير آخر ، وهو هنا مستعار للعمل بمثل عمل الآخر .

وانتصب حنيفا على الحال من إبراهيم فيكون زيادة تأكيد لمماثله قبله أو حالا من ضمير ( إليك ) أو من ضمير ( اتبع ) ، أي كن يا محمد حنيفا كما كان إبراهيم حنيفا ، ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة .

وتفسير فعل أوحينا بجملة أن اتبع ملة إبراهيم تفسير بكلام جامع لما أوحى الله به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام [ ص: 319 ] مع الإعلام بأنها مقامة على أصول ملة إبراهيم ، وليس المراد أوحينا إليك كلمة اتبع ملة إبراهيم حنيفا ; لأن النبيء صلى الله عليه وسلم لا يعلم تفاصيل ملة إبراهيم ، فتعين أن المراد أن الموحى به إليه منبجس من شريعة إبراهيم عليه السلام .

وقوله وما كان من المشركين هو مما أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم المحكي بقوله ثم أوحينا إليك ، وهو عطف على حنيفا على كلا الوجهين في صاحب ذلك الحال ، فعلى الوجه الأول يكون الحال زيادة تأكيد لقوله قبله ولم يك من المشركين ، وعلى الوجه الثاني يكون تنزيها لشريعة الإسلام المتبعة لملة إبراهيم من أن يخالطها شيء من الشرك .

ونفي كونه من المشركين هنا بحرف ( ما ) النافية ; لأن ( ما ) إذا نفت فعل ( كان ) أفادت قوة النفي ، ومباعدة المنفي ، وحسبك أنها يبنى عليها الجحود في نحو : ما كان ليفعل كذا .

فحصل من قوله السابق ولم يك من المشركين من قوله هنا وما كان من المشركين ثلاث فوائد : نفي الإشراك عن إبراهيم في جميع أزمنة الماضي ، وتجدد نفي الإشراك تجددا مستمرا ، وبراءته من الإشراك براءة تامة .

وقد علم من هذا أن دين الإسلام منزه عن أن تتعلق به شوائب الإشراك ; لأنه جاء كما جاء إبراهيم معلنا توحيدا لله بالإلهية ، ومجتثا لوشيج الشرك ، والشرائع الإلهية كلها - وإن كانت تحذر من الإشراك - فقد امتاز القرآن من بينها بسد المنافذ التي يتسلل منها الإشراك بصراحة أقواله ، وفصاحة بيانه ، وأنه لم يترك في ذلك كلاما متشابها كما قد يوجد في بعض الكتب الأخرى ؛ مثل ما جاء في التوراة من وصف اليهود بأبناء الله ، وما في الأناجيل من توهم بنوة عيسى عليه السلام لله ، سبحانه عما يصفون .

[ ص: 320 ] وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع : أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه - أي أرض الإسلام - أبدا ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم .

ومعنى اتباع محمد ملة إبراهيم الواقع في كثير من آيات القرآن أن دين الإسلام بني على أصول ملة إبراهيم ، وهي أصول الفطرة ، والتوسط بين الشدة واللين ، كما قال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم .

وفي قضية أمر إبراهيم بذبح ولده عليهما السلام ، ثم فدائه بذبح شاة رمز إلى الانتقال من شدة الأديان الأخرى في قرابينها إلى سماحة دين الله الحنيف في القربان بالحيوان دون الآدمي ، ولذلك قال تعالى وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم .

فالشريعة التي تبنى تفاصيلها وتفاريعها على أصول شريعة تعتبر كأنها تلك الشريعة ، ولذلك قال المحققون من علمائنا : إن الحكم الثابت بالقياس في الإسلام يصح أن يقال إنه دين الله ، وإن كان لا يصح أن يقال : قاله الله . وليس المراد أن جميع ما جاء به الإسلام قد جاء به إبراهيم عليه السلام - إذ لا يخطر ذلك بالبال - فإن الإسلام شريعة قانونية سلطانية وشرع إبراهيم شريعة قبائلية خاصة بقوم ، ولا أن المراد أن الله أمر النبيء محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم ابتداء قبل أن يوحي إليه بشرائع دين الإسلام ; لأن ذلك ؛ وإن كان صحيحا من جهة المعنى وتحتمله ألفاظ الآية ؛ لكنه لا يستقيم إذ لم يرد في شيء من التشريع الإسلامي ما يشير إلى أنه نسخ لما كان عليه النبيء صلى الله عليه وسلم من قبل .

[ ص: 321 ] فاتباع النبيء ملة إبراهيم كان بالقول والعمل في أصول الشريعة من إثبات التوحيد والمحاجة له ، واتباع ما تقتضيه الفطرة ، وفي فروعها مما أوحى الله إليه من الحنيفية مثل الختان ، وخصال الفطرة ، والإحسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية