صفحة جزء
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

هذه الجملة تعليل للأمر بالاستمرار على الدعوة بعد الإعلام بأن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ، وبعد وصف أحوال تكذيبهم وعنادهم .

[ ص: 333 ] فلما كان التحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجا لبيان الحكمة في ذلك بينت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس ، وليس ذلك لغير الله من الناس ، فما عليك إلا البلاغ ، أي فلا تيأس من هدايتهم ، ولا تتجاوز إلى حد الحزن على عدم اهتدائهم ; لأن العلم بمن يهتدي ، ومن يضل موكول إلى الله ، وإنما عليك التبليغ في كل حال ، وهذا قول فصل بين فريق الحق ، وفريق الباطل .

وقدم العلم بمن ضل ; لأنه المقصود من التعليل ; لأن دعوتهم أوكد ، والإرشاد إلى اللين في جانبهم بالموعظة الحسنة والمجادلة الحسنى أهم ، ثم أتبع ذلك بالعلم بالمهتدين على وجه التكميل .

وفيه إيماء إلى أنه لا يدري أن يكون بعض من أيس من إيمانه قد شرح الله صدره للإسلام بعد اليأس منه .

وتأكيد الخبر بضمير الفصل للاهتمام به ، وأما ( إن ) فهي في مقام التعليل ليست إلا لمجرد الاهتمام ، وهي قائمة مقام فاء التفريع على ما أوضحه عبد القاهر في دلائل الإعجاز ، فإن إفادتها التأكيد هنا مستغنى عنها بوجود ضمير الفصل في الجملة المفيدة لقصر الصفة على الموصوف ، فإن القصر تأكيد على تأكيد .

وإعادة ضمير الفصل في قوله وهو أعلم بالمهتدين للتنصيص على تقوية هذا الخبر ; لأنه لو قيل : وأعلم بالمهتدين ، لاحتمل أن يكون معطوفا على جملة ( هو أعلم بمن ضل ) على أنه خبر لـ ( إن ) غير داخل في حيز التقوية بضمير الفصل ، فأعيد ضمير الفصل ; لدفع هذا الاحتمال .

ولم يقل : و ( بالمهتدين ) ، تصريحا بالعلم في جانبهم ; ليكون صريحا في تعلق العلم به ، وهذان القصران إضافيان ، أي ربك أعلم بالضالين والمهتدين لا هؤلاء الذين يظنون أنهم مهتدون ، وأنكم ضالون .

[ ص: 334 ] والتفضيل في قوله هو أعلم تفضيل على علم غيره بذلك ، فإنه علم متفاوت بحسب تفاوت العالمين في معرفة الحقائق .

وفي هذا التفضيل إيماء إلى وجوب طلب كمال العلم بالهدى ، وتمييز الحق من الباطل ، وغوص النظر في ذلك ، وتجنب التسرع في الحكم دون قوة ظن بالحق ، والحذر من تغلب تيارات الأهواء حتى لا تنعكس الحقائق ، ولا تسير العقول في بنيات الطرائق ، فإن الحق باق على الزمان ، والباطل تكذبه الحجة والبرهان .

والتخلق بهذه الآية هو أن كل من يقوم مقاما من مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد المسلمين ، أو سياستهم يجب عليه أن يكون سالكا للطرائق الثلاث : الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وإلا كان منصرفا عن الآداب الإسلامية ، وغير خليق بما هو فيه من سياسة الأمة ، وأن يخشى أن يعرض مصالح الأمة للتلف ، فإصلاح الأمة يتطلب إبلاغ الحق إليها بهذه الوسائل الثلاث ، والمجتمع الإسلامي لا يخوى عن متعنت أو ملبس ، وكلاهما يلقي في طريق المصلحين شوك الشبه بقصد أو بغير قصد ، فسبيل تقويمه هو المجادلة ، فتلك أدنى لإقناعه ، وكشف قناعه .

في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في خطبة خطبها في آخر عمره : أيها الناس قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ، وضرب بإحدى يديه على الأخرى ، لعله ضرب بيده اليسرى على يده اليمنى الممسكة السيف أو العصا في حال الخطبة ، وهذا الضرب علامة على أنه ليس وراء ما ذكر مطلب للناس في حكم لم يسبق له بيان في الشريعة .

وقدم ذكر علمه بمن ضل عن سبيله على ذكر علمه بالمهتدين ; لأن المقام تعريض بالوعيد للضالين ؛ ولأن التخلية مقدمة على التحلية ، فالوعيد مقدم على الوعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية