صفحة جزء
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا

القفو : الاتباع ، يقال : قفاه يقفوه إذا اتبعه ، وهو مشتق من اسم القفا ، وهو ما وراء العنق ، واستعير هذا الفعل هنا للعمل ، والمراد ب ما ليس لك به علم الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ، ولا غلبة ظن به .

ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة ; منها خلة من خلال الجاهلية ، وهي الطعن في أنساب الناس ، فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن ، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتانا ، أو سوء ظن إذا رأوا بعدا في الشبه بين الابن وأبيه ، أو رأوا شبهه برجل آخر من الحي أو رأوا لونا مخالفا للون الأب أو الأم ، تخرصا ، وجهلا بأسباب التشكل ، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنين أو الأبعدين ، وجهلا بالشبه الناشئ عن الرحم ، وقد جاء أعرابي إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت ولدا أسود يريد أن ينتفي منه فقال له النبيء هل لك من إبل ؟ قال : نعم ، قال : ما ألوانهن ؟ قال : ورق ، قال : وهل فيها من جمل أسود ؟ قال : نعم ، قال : فمن أين ذلك ؟ قال : لعله عرق نزعه ، فقال النبيء صلى الله عليه وسلم فلعل ابنك نزعه عرق ، ونهاه عن الانتفاء منه ، فهذا كان شائعا في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك .

ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة ، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك ، وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة

[ ص: 101 ] لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها ، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مسن امرأة شابة أو نصفا فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة ، ولذلك لما قال النبيء صلى الله عليه وسلم يوما سلوني أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول : من أبي ؟ فيقول : أبوك فلان ، وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة ; لأن أسامة كان أسود اللون ، وكان زيد أبوه أبيض أزهر ، وقد أثبت النبيء صلى الله عليه وسلم أن أسامة ابن زيد بن حارثة ، فهذا خلق باطل كان متفشيا في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره .

ومنها تجنب الكذب ، قال قتادة : لا تقف : لا تقل : رأيت وأنت لم تر ، ولا سمعت وأنت لم تسمع ، وعلمت وأنت لم تعلم .

ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي ، وبذلك فسر محمد ابن الحنفية وجماعة .

وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ، فموقع الجملة موقع تعليل ، أي أنك أيها الإنسان تسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات .

وهذا أدب خلقي عظيم ، وهو أيضا إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم ، ثم هو أيضا إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع ، والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة .

وقد صيغت جملة كل أولئك كان عنه مسئولا على هذا النظم بتقديم كل الأدلة على الإحاطة من أول الأمر ، وأتى باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال : كلها كان عنه مسئولا ، لما في الإشارة من زيادة التمييز ، وأقحم فعل كان لدلالته على رسوخ الخبر كما تقدم غير مرة .

[ ص: 102 ] و عنه جار ومجرور في موضع النائب عن الفاعل لاسم المفعول ، كقوله غير المغضوب عليهم ، وقدم عليه للاهتمام ، وللرعي على الفاصلة ، والتقدير : كان مسئولا عنه ، كما تقول : كان مسئولا زيد ، ولا ضير في تقديم المجرور الذي هو في رتبة نائب الفاعل ، وإن كان تقديم نائب الفاعل ممنوعا ; لتوسع العرب في الظروف والمجرورات ، ولأن تقديم نائب الفاعل الصريح يصيره مبتدأ ، ولا يصلح أن يكون المجرور مبتدأ فاندفع مانع التقديم .

والمعنى : كل السمع والبصر والفؤاد كان مسئولا عن نفسه ، ومحقوقا بأن يبين مستند صاحبه من حسه .

والسؤال : كناية عن المؤاخذة بالتقصير ، وتجاوز الحق ، كقول كعب :


وقيل إنك منسوب ومسئول

أي مؤاخذ بما اقترفت من هجو النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وهو في الآية كناية بمرتبة أخرى عن مؤاخذة صاحب السمع والبصر والفؤاد بكذبه على حواسه ، وليس هو بمجاز عقلي لمنافاة اعتباره هنا تأكيد الإسناد ب ( إن ) و ب ( كل ) وملاحظة اسم الإشارة و ( كان ) ، وهذا المعنى كقوله يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون أي يسأل السمع : هل سمعت ؟ فيقول : لم أسمع ، فيؤاخذ صاحبه بأن أسند إليه ما لم يبلغه إياه ، وهكذا .

والاسم الإشارة بقوله أولئك يعود إلى السمع والبصر والفؤاد وهو من استعمال اسم الإشارة الغالب استعماله للعامل في غير العاقل تنزيلا لتلك الحواس منزلة العقلاء ; لأنها جديرة بذلك إذ هي طريق العقل ، والعقل نفسه ، على أن استعمال أولئك لغير العقلاء استعمال مشهور قيل هو استعمال [ ص: 103 ] حقيقي ، أو لأن هذا المجاز غلب حتى ساوى الحقيقة ، قال تعالى ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض وقال :


ذم المنازل بعد منزلة اللوى     والعيش بعد أولئك الأيام

وفيه تجريد لإسناد مسئولا إلى تلك الأشياء بأن المقصود سؤال أصحابها ، وهو من نكت بلاغة القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية