وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض وآتينا داود زبورا تماثل القرينتين في فاصلتي هذه الآية من كلمة والأرض وكلمة 
على بعض ، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض ، وأن ليس قوله 
وربك أعلم بمن في السماوات والأرض تكملة لآية 
ربكم أعلم بكم الآية .  
[ ص: 136 ] وتغيير أسلوب الخطاب في قوله 
وربك أعلم بعد قوله 
ربكم أعلم بكم   ; إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شئون النبيء صلى الله عليه وسلم التي لها مزيد اختصاص به ; تقفية على إبطال أقوال المشركين في شئون الصفات الإلهية ، بإبطال أقوالهم في أحوال النبيء بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم ، وقالوا : أبعث الله يتيم أبي طالب رسولا ، أبعث الله بشرا رسولا ، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله 
وربك أعلم بمن في السماوات والأرض فهو العالم حيث يجعل رسالته . 
وكان قوله 
وربك أعلم بمن في السماوات والأرض كالمقدمة لقوله 
ولقد فضلنا بعض النبيئين الآية ، أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمتساهل للرسالة بحسب ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك ، كما قال تعالى عنهم ( 
قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ، 
الله أعلم حيث يجعل رسالاته   ) في سورة الأنعام . 
وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات ; لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ كل حكم لجزئياتها ; لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم ; لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر ، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم ، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه السلام ، وذلك يثير أحوالا جمة من العصور والرجال والأمم أحياء وأمواتا ، فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله 
بمن في السماوات والأرض ، وهو أيضا كالمقدمة لجملة 
ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض ، مشيرا إلى أن 
تفاضل الأنبياء ناشئ على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل ، وهذا إيجاز تضمن إثبات النبوة وتقررها فيما مضى مما لا قبل لهم بإنكاره ، وتعدد الأنبياء مما   
[ ص: 137 ] يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل ، وإثبات التفاضل بين الأفراد من البشر ، فمنهم رسول ، ومنهم مرسل إليهم ، وإثبات التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل ، وتقرر ذلك فيما مضى تقررا لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل ، حتى بين الأفضلين سنة إلهية مقررة لا نكران لها . 
فعلم أن طعنهم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد . 
كما قال تعالى في شأن 
اليهود  أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما في سورة النساء . 
وتخصيص 
داود  عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب الكشاف ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى 
أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء ، وأمته أفضل الأمم   ; لأن في الزبور ( 
أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون   ) ، وهذا حسن ، وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيرا من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين ، وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها ، وأن التفضيل بالنبوة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة ، فإن داود عليه السلام كان راعيا من رعاة الغنم في 
بني إسرائيل  ، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر ، فأمر الله ( 
شاول    ) ملك 
بني إسرائيل  أن يختار داود لمحاربة ( 
جالوت ) الكنعاني  ، فلما قتل 
داود  جالوت آتاه الله النبوة وصيره ملكا بإسرائيل ، فهو النبيء الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة . 
وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم ، وينتصرون عليهم ; لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفا ، وقد أوتي 
داود  الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء 
بني إسرائيل  كتابا بعد 
موسى  عليه السلام ، وذكر 
داود  تقدم في سورة الأنعام ، وفي آخر سورة النساء .  
[ ص: 138 ] وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى 
وآتينا داود زبورا في آخر سورة النساء . 
والزبور : اسم لجموع أقوال 
داود  عليه السلام ، التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة ، وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم .