صفحة جزء
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرايتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا عطف على جملة وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي واذكر إذ قلنا للملائكة ، والمقصود من هذا تذكير النبيء صلى الله عليه وسلم بما لقي الأنبياء قبله من معاندة الأعداء والحسدة من عهد آدم حين حسده إبليس على فضله ، وأنهم لا يعدمون مع ذلك معترفين بفضلهم ، وهم خيرة زمانهم كما كانت الملائكة نحو آدم عليه السلام ، وأن كلا الفريقين في كل عصر يمت إلى أحد الفريقين الذي في عهد آدم ، فلفريق الملائكة المؤمنون ولفريق الشيطان الكافرون ، كما أومأ إليه قوله تعالى قال اذهب فمن تبعك منهم الآية ، ففي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله نبيه بأن يذكر ذلك يتضمن تذكيره إياه به ، وذكر النبيء ذلك موعظة للناس بحال الفريقين ; لينظر العاقل أين يضع نفسه ؟

وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها .

والاستفهام في أأسجد إنكار ، أي لا يكون .

[ ص: 150 ] وجملة قال أأسجد مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود ، وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه ، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشئ عن جهله وغروره .

وقوله طينا حال من اسم الموصول ، أي الذي خلقته في حال كونه طينا ، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين ، وإنما جعل جنس الطين حالا منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه ; لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس .

وجملة قال أرأيتك بدل اشتمال من جملة أأسجد لمن خلقت طينا باعتبار ما تشتمل عليه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله ، فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله أرأيتك المفيد الإنكار ، وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته ، ولذلك فصلت جملة قال أرأيتك عن جملة قال أأسجد كما وقع في قوله تعالى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد .

و أرأيتك تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به ، ومعناه : أخبرني عما رأيت ، وهو مركب من همزة استفهام ، و ( رأى ) التي بمعنى علم ، ( وتاء المخاطب ) المفرد المرفوع ، ثم يزاد على ضمير الخطاب كاف خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحدا أو متعددا ، يقال : أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة في سورة الأنعام ، وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع ، وهو يشبه التوكيد اللفظي ، وقال الفراء : الكاف ضمير نصب ، والتركيب : أرأيت نفسك ، وهذا أقرب للاستعمال ، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضمير فاعلها نحو قول طرفة :

[ ص: 151 ]

فما لي أراني وابن عمي مالكا متى أدن منه ينأ عني ويبعد

أي : أرى نفسي .

واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، كقوله تعالى أهذا الذي يذكر آلهتكم ، والمعنى : أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته علي بلا وجه .

وجملة لئن أخرتني إلى يوم القيامة إلخ مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وهي جملة قسمية ، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط ، والخبر مستعمل في الدعاء ، فهو في معنى قوله قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون .

وهذا الكلام صدر من إبليس إعرابا عما في ضميره ، وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ; ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه .

وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه ، فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة ، وأنه يغوي كثيرا من البشر ، ويسلم منه قليل منهم .

وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ، ولم يذكر إغواء آدم وهو أولى بالذكر إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه ، إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أغوى آدم وأخرج من الجنة فقد شفى غليله منه ، وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم ، قال تعالى إن الشيطان لكم عدو .

والاحتناك : وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيره ، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفرس على حب ما يريد راكبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية