صفحة جزء
إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .

( إذ ) ظرف مضاف إلى الجملة بعده ، وهو متعلق بـ " كانوا " فتكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها .

ويجوز كون الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره : اذكر ، فتكون مستأنفة استئنافا بيانيا للجملة التي قبلها ، وأياما كان فالمقصود إجمال قصتهم ابتداء ; تنبيها على أن قصتهم ليست أعجب آيات الله ، مع التنبيه على أن ما أكرمهم الله به من العناية إنما كان تأييدا لهم لأجل إيمانهم ، فلذلك عطف عليه قوله فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة .

[ ص: 266 ] وأوى أويا إلى المكان : جعله مسكنا له ، فالمكان : المأوى ، وقد تقدم عند قوله تعالى أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون في سورة يونس .

والفتية : جمع قلة لـ ( فتى ) ، وهو الشاب المكتمل ، وتقدم عند قوله تعالى في سورة يوسف ، والمراد بالفتية : أصحاب الكهف ، وهذا من الإظهار في مقام الإضمار ; لأن مقتضى الظاهر أن يقال : إذ أووا ، فعدل عن ذلك لما يدل عليه لفظ الفتية من كونهم أترابا متقاربي السن ، وذكرهم بهذا الوصف للإيماء إلى ما فيه من اكتمال خلق الرجولية المعبر عنه بالفتوة الجامع لمعنى سداد الرأي ، وثبات الجأش ، والدفاع عن الحق ، ولذلك عدل عن الإضمار ، فلم يقل : إذ أووا إلى الكهف .

ودلت الفاء في جملة فقالوا على أنهم لما أووا إلى الكهف ، بادروا بالابتهال إلى الله .

ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه ، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة ، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به ، فزيادة من لدنك للتعلق بفعل الإيتاء ، تشير إلى ذلك ; لأن في ( من ) معنى الابتداء وفي ( لدن ) معنى العندية والانتساب إليه ، فذلك أبلغ مما لو قالوا : آتنا رحمة ; لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة من الله ، ولكنهم سألوا رحمة خاصة وافرة في حين توقع ضدها ، وقصدوا الأمن على إيمانهم من الفتنة ، ولئلا يلاقوا في اغترابهم مشقة وألما ، وأن لا يهينهم أعداء الدين فيصيروا فتنة للقوم الكافرين .

ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق ، والنجاة من مناوأة المشركين ، فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء .

و ( من ) في قوله من أمرنا ابتدائية .

[ ص: 267 ] والأمر هنا : الشأن والحال الذي يكونون فيه ، وهو مجموع الإيمان والاعتصام إلى محل العزلة عن أهل الشرك ، وقد أعد الله لهم من الأحوال ما به رشدهم ، فمن ذلك صرف أعدائهم عن تتبعهم ، وأن ألهمهم موضع الكهف ، وأن كان وضعه على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة ، وأن أنامهم نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة ، وحصل رشدهم إذ ثبتوا على الدين الحق ، وشاهدوه منصورا متبعا ، وجعلهم آية للناس على صدق الدين ، وعلى قدرة الله ، وعلى البعث .

والرشد بفتحتين : الخير وإصابة الحق والنفع والصلاح ، وقد تكرر في سورة الجن باختلاف هذه المعاني ، والرشد بضم الراء وسكون الشين مرادف الرشد ، وغلب في حسن تدبير المال ، ولم يقرأ هذا اللفظ هنا في القراءات المشهورة إلا بفتح الراء بخلاف قوله تعالى قد تبين الرشد من الغي في البقرة ، وقوله فإن آنستم منهم رشدا في سورة النساء فلم يقرأ فيهما إلا بضم الراء .

ووجه إيثار مفتوح الراء والشين في هذه السورة في هذا الموضع وفي قوله الآتي وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا : أن تحريك الحرفين فيهما أنسب بالكلمات الواقعة في قرائن الفواصل ، ألا ترى أن الجمهور قرءوا قوله في هذه السورة على أن تعلمني مما علمت رشدا بضم الراء ; لأنه أنسب بالقرائن المجاورة له ، وهي من لدنا علما ، معي صبرا ما لم تحط به خبرا ، ولا أعصي لك أمرا إلى آخره ، ولم يقرأه هنالك بفتح الراء والشين إلا أبو عمرو ويعقوب .

التالي السابق


الخدمات العلمية