صفحة جزء
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ليلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون عطف قوله ومن حيث خرجت على قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام عطف حكم على حكم من جنسه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر ، فالمراد : من حيث خرجت من كل مكان خرجت [ ص: 45 ] مسافرا لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه ، وفي معظم هاته الآية مع قوله وإنه للحق من ربك زيادة اهتمام بأمر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة الحق من ربك .

وقوله وما الله بغافل عما تعملون زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة .

وقوله بعده ومن حيث خرجت عطف على الجملة التي قبله ، وأعيد لفظ الجملة السالفة ليبنى عليه التعليل بقوله ليلا يكون للناس عليكم حجة . وقوله وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره عطف على قوله ومن حيث خرجت الآية .

والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبيء صلى الله عليه وسلم .

وحصل من تكرير معظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله ليلا يكون للناس عليكم حجة .

وقد تكرر الأمر باستقبال النبيء الكعبة ثلاث مرات ، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين .

وتكرر إنه الحق ثلاث مرات ، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات ، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين ، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد ، من زيادة ومن حيث خرجت ، ومن جمل معترضة ، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال : وهي جملة وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون الآيات ، وجملة وإنه للحق من ربك وجملة ليلا يكون للناس عليكم حجة الآيات ، وفيه إظهار أحقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلا تصميما ، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقق في معنى الكلام .

وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حف به ، ما يدفع قليل السآمة العارضة لسماع التكرار ، فذكر قوله وإنه للحق من ربك وما الله بغافل إلخ ، وذكر قوله ليلا يكون للناس إلخ .

[ ص: 46 ] والضمير في وإنه للحق من ربك راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام ، فالضمير هنا كالضمير في قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه وقرأ الجمهور عما تعملون بمثناة فوقية على الخطاب ، وقرأه أبو عمرو بياء الغيبة .

وقوله ليلا يكون للناس عليكم حجة علة لقوله فولوا الدال على طلب الفعل وامتثاله ، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم ، وشأن تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب .

فإن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلام بكون الطالب طالبا وإلا لما وجب الامتثال للآمر فيكتفى بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصودا .

والتعريف في " الناس " للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا : لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى ، وأهل الكتاب ، والحجة أن يقولوا : إن محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه .

ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم ، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه .

ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلا الذين أوتوا العلم ، وعلى هذا يكون قوله ليلا يكون للناس عليكم حجة ناظرا إلى قوله وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق ، وقوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه .

وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة .

والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف ، بحيث لا يجد منه تفصيا ، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته : قد حجه ، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة ، قال : احتج ، يقال : حاج إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، فالحجة لا تطلق حقيقة إلا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف ، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى حجتهم [ ص: 47 ] داحضة عند ربهم ، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه الكشاف ، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي ، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء ، إلا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول ، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن الذين ظلموا لهم عليكم حجة ، فأجاب صاحب الكشاف ، بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء الذين ظلموا يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة ، فحرف " إلا " يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي ، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى : لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم .

وجملة ولأتم نعمتي تعليل ثان لقوله فولوا وجوهكم شطره معطوف على قوله ليلا يكون للناس عليكم حجة بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفا وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى : أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ، منها : أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بني لله تعالى ، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما أمرنا به ، وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة . أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا ، فهو قريب من قوله تعالى فأتمهن أي امتثلهن امتثالا تاما وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر ، فمعنى الآية : ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال .

وقوله ولعلكم تهتدون عطف على ولأتم أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق .

وحرف " لعل " في قوله ولعلكم تهتدون مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه . ومعنى جعل ذلك القرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في [ ص: 48 ] سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما قدمناه وقال حبيب :


إن الهلال إذا رأيت نماءه أيقنت أن سيصير بدرا كاملا



التالي السابق


الخدمات العلمية