صفحة جزء
يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا

مقول قول محذوف دل عليه السياق عقب الدعاء إيجازا ، أي قلنا يا زكرياء إلخ . . .

[ ص: 69 ] والتبشير : الوعد بالعطاء . وفي الحديث : أنه قال للأنصار فأبشروا وأملوا . وفي حديث وفد بني تميم : اقبلوا البشرى ، فقالوا بشرتنا فأعطيتنا .

ومعنى اسمه يحيى سمه يحيى ، فالكلام خبر مستعمل في الأمر .

والسمي فسروه بالموافق في الاسم ، أي لم نجعل له من يوافقه في هذا الاسم من قبل وجوده . فعليه يكون هذا الإخبار سرا من الله أودعه زكرياء فلا يظن أنه قد يسمي أحد ابنه يحيى فيما بين هذه البشارة وبين ازدياد الولد . وهذه منة من الله وإكرام لزكرياء إذ جعل اسم ابنه مبتكرا . وللأسماء المبتكرة مزية قوة تعريف المسمى لقلة الاشتراك ، إذ لا يكون مثله كثيرا مدة وجوده . وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمنا واستجادة .

وعندي : أن السمي هنا هو الموافق في الاسم الوصفي بإطلاق الاسم على الوصف فإن الاسم أصله في الاشتقاق ( وسم ) والسمة : أصلها وسمة ، كما في قوله تعالى ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ، أي يصفونهم أنهم إناث ، ومنه قوله الآتي هل تعلم له سميا أي لا مثيل لله تعالى في أسمائه . وهذا أظهر في الثناء على يحيى والامتنان على أبيه . والمعنى : أنه لم يجئ قبل يحيى من الأنبياء من اجتمع له ما اجتمع ليحيى فإنه أعطي النبوءة وهو صبي ، قال تعالى وآتيناه الحكم صبيا . وجعل حصورا ليكون غير مشقوق عليه في عصمته عن الحرام ، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة ، وولد لأبيه بعد الشيخوخة ولأمه بعد العقر . وبعث مبشرا برسالة عيسى - عليه السلام - ، ولم يكن هو [ ص: 70 ] رسولا ، وجعل اسمه العلم مبتكرا غير سابق من قبله . وهذه مزايا وفضائل وهبت له ولأبيه ، وهي لا تقتضي أنه أفضل الأنبياء لأن الأفضلية تكون بمجموع فضائل لا ببعضها وإن جلت ، ولذلك قيل المزية لا تقتضي الأفضلية وهي كلمة صدق . وجملة قال رب جواب للبشارة .

و أنى استفهام مستعمل في التعجب . والتعجب مكنى به عن الشكر ، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولدا ثم يتعجب من استجابة الله له . ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولدا من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر ، وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران .

وجملة وكانت امرأتي عاقرا حال من ياء التكلم وكرر ذلك مع قوله في دعائه وكانت امرأتي عاقرا . وهو يقتضي أن زكرياء كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته ، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عنة ولا خصاء ولا اعتراض ، لأنهم يحسبون الإنعاض والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العقر . وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إما لعلة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة .

و من في قوله من الكبر عتيا للابتداء ، وهو مجاز في معنى التعليل .

والكبر : كثرة سني العمر . لأنه يقارنه ظهور قلة النشاط واختلال نظام الجسم . و عتيا مفعول بلغت .

[ ص: 71 ] والبلوغ : مجاز في حلول الإبان . وجعل نفسه هنا بالغا الكبر وفي آية آل عمران قال وقد بلغني الكبر لأن البلوغ لما كان مجازا في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف .

والعتي بضم العين في قراءة الجمهور : مصدر عتا العود إذا يبس ، وهو بوزن فعول أصله عتوو ، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمة ولكنهم لما استثقلوا توالي ضمتين بعدهما واوان وهما بمنزلة ضمتين تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثر كسرة فلما قلبت ياء اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام . وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلا لدفع الالتباس بينه وبين العتو الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر . شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة المكنية ، وإثبات وصف العتي لها استعارة تخييلية .

التالي السابق


الخدمات العلمية