1. الرئيسية
  2. التحرير والتنوير
  3. سورة مريم
  4. قوله تعالى قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيئا وجعلني مباركا أين ما كنت
صفحة جزء
[ ص: 98 ] قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيئا وجعلني مباركا أين ما كنت ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها ، وهو طي يتعجب منه . ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة ، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه - صلى الله عليه وسلم - .

والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون : أنه ابن الله .

والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدر إيتاءه إياه ، أي قدر أن يؤتيني الكتاب .

والكتاب : الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير . فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن .

والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى .

ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاء علم ما في التوراة كقوله تعالى يا يحيى خذ الكتاب بقوة ، فيكون قوله ( وجعلني نبيئا ) ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها .

والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و آتاني الكتاب .

[ ص: 99 ] والمبارك : الذي تقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك ، لأن المبارك اسم مفعول من باركه ، إذا جعله ذا بركة . أو من بارك فيه ، إذا جعل البركة معه .

والبركة : الخير واليمن .

ذلك أن الله أرسله برحمة لبني إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وليدعوهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم ، فهذه أعظم بركة تقارنه . ومن بركته أن جعل الله حلوله في المكان سببا لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير . ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقساة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة . ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشارين فصاروا دعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة .

وبهذا يظهر أن كونه مباركا أعم من كونه نبيئا عموما وجهيا ، فلم يكن في قوله ( وجعلني نبيا ) غنية عن قوله وجعلني مباركا .

والتعميم الذي في قوله أين ما كنت تعميم للأمكنة ، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده ، بل هو حيثما حل تحل معه البركة .

والوصاية : الأمر المؤكد بعمل مستقبل ، أي قدر وصيتي بالصلاة والزكاة ، أي أن يأمرني بهما أمرا مؤكدا مستمرا ، فاستعمال صيغة المضي في أوصاني مثل استعمالها في قوله آتاني الكتاب .

والزكاة : الصدقة . والمراد : أن يصلي ويزكي . وهذا أمر خاص به كما أمر نبيئنا - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل ، وقرينة [ ص: 100 ] الخصوص قوله ما دمت حيا لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة ، أي أن يصلي ويتصدق في أوقات التمكن من ذلك ، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات .

فالاستغراق المستفاد من قوله ما دمت حيا استغراق عرفي مراد به الكثرة ; وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته ، لأن سياق الكلام في أوصاف تميز بها عيسى - عليه السلام - ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة . والبر بفتح الباء : اسم بمعنى البار . وتقدم آنفا . وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه ، لأن بر الوالدين كان ضعيفا في بني إسرائيل يومئذ ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف ، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البر بها .

والجبار : المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم . وقد تقدم في سورة هود قوله واتبعوا أمر كل جبار عنيد .

والشقي : الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة ، وهو ضد السعيد . وتقدم عند قوله تعالى فمنهم شقي وسعيد في آخر سورة هود .

ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا .

وقوله والسلام علي يوم ولدت إلى آخره تنويه بكرامته عند الله ، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربه ، والقول فيه تقدم في آية ذكر يحيى .

وجيء بالسلام هنا معرفا باللام على الجنس مبالغة في تعلق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه . وهذا مؤذن [ ص: 101 ] بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه وسلام عليه يوم ولد ، وذلك هو الفرق بين المعرف بلام الجنس وبين النكرة .

ويجوز جعل اللام للعهد ، أي سلام إليه ، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته .

ومن هذا القبيل السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته .

ومؤذن أيضا بتمهيد التعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة ، فقالوا : ولد من زنى ، وقالوا : مات مصلوبا ، وقالوا : يحشر مع الملاحدة والكفرة ، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة .

التالي السابق


الخدمات العلمية