صفحة جزء
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا . جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا . لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا

فرع على الثناء عليهم اعتبار وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعنيون بـ الخلف .

والخلف بسكون اللام عقب السوء ، وبفتح اللام عقب الخير . وتقدم عند قوله تعالى ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ) في سورة الأعراف . وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلت لأنها راجعة في النسب إلى إدريس جد نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضا إلى إبراهيم فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب . ومنهم من يدلي إليه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل .

[ ص: 135 ] ولفظ من بعدهم يشمل طبقات وقرونا كثيرة ، ليس قيدا لأن الخلف لا يكون إلا من بعد أصله وإنما ذكر لاستحضار ذهاب الصالحين .

والإضاعة : مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العرض النفيس ، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم مما هو فساد . وتقدم قوله تعالى ( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) في الكهف .

والصلاة : عبادة الله وحده .

وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق ، فالشرك إضاعة للصلاة لأنه انصراف عن الخضوع لله تعالى ، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماما ، قال تعالى ( قالوا لم نك من المصلين ) ، والشرك : اتباع للشهوات ، لأن المشركين اتبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل ، وهؤلاء هم المقصودون هنا ، وغير المشركين كاليهود والنصارى فرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها ، ويشمل ذلك كله اسم الغي .

والغي : الضلال ، ويطلق على الشر ، كما أطلق ضده وهو الرشد على الخير في قوله تعالى ( أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) وقوله ( قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ) . فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيهم ، كقوله تعالى ( ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) في جزاء الآثام . وتقدم الغي في قوله تعالى ( وإخوانهم يمدونهم في الغي ) ، وقوله ( وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ) كلاهما في سورة الأعراف . وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله ( فأولئك يدخلون الجنة ) .

[ ص: 136 ] وحرف ( سوف ) دال على أن لقاءهم الغي متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيرا لهم من الإصرار على ذلك .

وقوله ( فأولئك يدخلون الجنة ) جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيها لهم للترغيب في توبتهم من الكفر . وجيء بالمضارع الدال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يمطلون في الجزاء . والجنة : علم لدار الثواب والنعيم . وفيها جنات كثيرة كما ورد في الحديث : أوجنة واحدة هي إنها لجنان كثيرة . والظلم : هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل ، كقوله ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) في سورة الكهف .

وشيء : اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم . وذكر ( شيئا ) في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء ، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعا لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان بظن أن سبق الكفر يحط من حسن مصيرهم .

وجنات بدل من الجنة . جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت ، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال .

وعدن : الخلد والإقامة ، أي جنات خلد ووصفها ب ( التي وعد الرحمن عباده ) زيادة تشريفها وتحسينها ، وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان .

والغيب : مصدر غاب ، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب . وتقدم في قوله تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ) في أول البقرة . [ ص: 137 ] والباء في بالغيب للظرفية ، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم ، أي في الأزل إذ خلقها لهم ، قال تعالى أعدت للمتقين . وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم .

وجملة ( إنه كان وعده مأتيا ) تعليل لجملة ( التي وعد الرحمن عباده بالغيب ) في يدخلون الجنة وعدا من الله واقعا . وهذا تحقيق للبشارة .

والوعد : هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول . وهو من باب كسا ، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن ، فالجنات لهم موعودة من ربهم .

والمأتي : الذي يأتيه غيره ، وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب ، تشبيها لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه ، وتشبيها للشيء المحصل بالمكان المقصود . ففي قوله ( مأتيا ) تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين ، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأن المأتي لا بد له من آت .

وجملة ( لا يسمعون فيها لغوا ) حال من عباده . واللغو : فضول الكلام وما لا طائل تحته . وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة ، كما قال تعالى ( لا تسمع فيها لاغية ) ، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم .

وقوله : إلا سلاما استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقول النابغة : [ ص: 138 ]

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب



أي لكن تسمعون سلاما ، قال تعالى ( وتحيتهم فيها سلام ) وقال ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ) .

والرزق : الطعام . وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه ، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر . وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم ، وإضافة رزق إلى ضمير هم لزيادة الاختصاص .

والبكرة : النصف الأول من النار ، والعشي : النصف الأخير ، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن ، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر الليل .

وجملة تلك الجنة مستأنفة ابتدائية ، واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويها بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويها بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى أعدت للمتقين .

ونورث نجعل وارثا ، أي نعطي الإرث . وحقيقة الإرث : انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيد بحالة . واستعير هنا للعطية المدخرة لمعطاها ، تشبيها بمال الموروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر .

وقرأ الجمهور نورث بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء . وقرأه رويس عن يعقوب : نورث بفتح الواو وتشديد الراء من ورثه المضاعف .

التالي السابق


الخدمات العلمية