صفحة جزء
فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .

الفاء تفريع على جملة ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ) ، باعتبار ما تضمنته من التهديد . وواو القسم لتحقيق الوعيد . والقسم بالرب مضافا إلى ضمير المخاطب وهو النبيء - صلى الله عليه وسلم - إدماج لتشريف قدره . وضمير لنحشرنهم عائد إلى الإنسان المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم ، أي لنحشرن المشركين . [ ص: 147 ] وعطف الشياطين على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده ، وللإشارة إلى أن الشياطين هم سبب ضلالهم الموجب لهم هذه الحالة ، فحشرهم مع الشياطين إنذارا لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عند الناس كلهم . فلذلك عطف عليه جملة ( ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) ، والضمير للجميع . وهذا إعداد آخر للتقرب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرعب في قلوبهم . فحرف ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد .

و جثيا حال من ضمير لنحضرنهم ، والجثي : جمع جاث . ووزنه فعول مثل : قاعد وقعود وجالس وجلوس ، وهو وزن سماعي في جمع فاعل . وتقدم نظيره ( خروا سجدا وبكيا ) ، فأصل جثي جثوو بواوين لأن فعله واوي ، يقال : جثا يجثو إذا برك على ركبتيه وهي هيئة الخاضع الذليل ، فلما اجتمع في جثوو واوان استثقلا بعد ضمة الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء ، فلما كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياء للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلب الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي . وهذا الجثو هو غير جثو الناس في الحشر المحكي بقوله تعالى ( وترى كل أمة جاثية . كل أمة تدعى إلى كتابها ) إن ذلك جثو خضوع لله ، وهذا الجثو حول جهنم جثو مذلة .

والقول في عطف جملة ( ثم لننزعن من كل شيعة ) كالقول في جملة ثم لنحضرنهم وهذه حالة أخرى من الرعب أشد من [ ص: 148 ] اللتين قبلها وهي حالة تميزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوهم في الكفر .

والنزع : إخراج شيء من غيره ، ومنه نزع الماء من البئر .

والشيعة : الطائفة التي شايعت أحدا ، أي اتبعته ، فهي على رأي واحد . وتقدم في قوله تعالى ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ) في سورة الحجر . والمراد هنا شيع أهل الكفر ، أي من كل شيعة منهم ، أي ممن أحضرناهم حول جهنم .

والعتي : العصيان والتجبر ، فهو مصدر بوزن فعول مثل : خروج وجلوس ، فقلبت الواو ياء . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف بكسر العين إتباعا لحركة التاء كما تقدم في جثيا .

والمعنى : لنميزن من كل فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو من تلك الشيعة أشد عصيانا لله وتجبرا عليه ، وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأمية بن خلف ونظرائهم .

وأي اسم موصول بمعنى ما ومن . والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم . وأصل التركيب : أيهم هو أشد عتيا على الرحمن . وذكر صفة الرحمن هنا لتفظيع عتوهم ، لأن شديد الرحمة بـ الخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان .

ولما كان هذا النزع والتمييز مجملا ، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشد عصيانا ، أعلم الله تعالى أنه يعلم من هو أولى منهم بمقدار صلي النار فإنها دركات متفاوتة . والصلي : مصدر صلي النار كرضي ، وهو مصدر سماعي بوزن فعول . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف بكسر الصاد إتباعا لحركة اللام ، كما تقدم في جثيا . [ ص: 149 ] وحرفا الجر يتعلقان بأفعلي التفضيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية