صفحة جزء
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

لما ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أن جميع طوائف الشرك يدخلون النار ، دفعا لتوهم أن انتزاع من هو أشد على الرحمن عتيا هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب ، بأن يحسبوا أن كبراءهم يكونون فداء لهم من النار أو نحو ذلك ، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النار فإن الله أوجب على جميعهم النار . وهذه الجملة معترضة بين جملة ( فوربك لنحشرنهم ) إلخ . . . وجملة ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا ) إلخ . . .

فالخطاب في ( وإن منكم ) إلتفات عن الغيبة في قوله ( لنحشرنهم ) و ( لنحضرنهم ) عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة . ومقتضى الظاهر أن يقال : وإن منهم إلا واردها . وعن ابن عباس أنه كان يقرأ ( وإن منهم ) . وكذلك قرأ عكرمة وجماعة . فالمعنى : وما منكم أحد ممن نزع من كل شيعة وغيره إلا وارد جهنم حتما قضاه الله فلا مبدل لكلماته ، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزة شيعكم ، أو تلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم ، أو يكونون فداء عنكم من النار . [ ص: 150 ] وهذا نظير قوله تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين ) ، أي الغاوين وغيرهم . وحرف ( إن ) للنفي .

والورود : حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء . ويطلق على الوصول مطلقا مجازا شائعا ، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يعرف إلا أن يكون مجازا غير مشهور فلا بد له من قرينة . وجملة ( ثم ننجي الذين اتقوا ) زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنهم خالدون في العذاب ، فليس ورودهم النار بموقت بأجل . و ( ثم ) للترتيب الرتبي ، تنويها بإنجاء الذين اتقوا ، وتشويها بحال الذين يبقون في جهنم جثيا . فالمعنى : وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتقوا من ورود جهنم . وليس المعنى : ثم ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نجوا من الورود إلى النار . وذكر إنجاء المتقين ، أي المؤمنين ، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين . وجملة ( ونذر الظالمين فيها جثيا ) عطف على جملة ( وإن منكم إلا واردها ) . والظالمون : المشركون . والتعبير بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار . والأصل : ونذركم أيها الظالمون . ونذر : نترك ، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه ، أمات العرب ماضي نذر استغناء عنه بماضي " نترك " ، كما تقدم عند قوله تعالى ( ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) في سورة الأنعام .

فليس الخطاب في قوله ( وإن منكم إلا واردها ) لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم على معنى ابتداء كلام ؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين [ ص: 151 ] يردون النار مع الكافرين ثم ينجون من عذابها ، لأن هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق ، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات السابقة . ولأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مساقا واحدا ، كيف وقد صدر الكلام بقوله ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ) وقال تعالى ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) ، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين . فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى ( وإن جهنم لموعدهم أجمعين عقب قوله ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) . فلا يتوهم أن جهنم موعد عباد الله المخلصين مع تقدم ذكره لأنه ينبو عنه مقام الثناء .

وهذه الآية مثار إشكال ومحط قيل وقال ، واتفق جميع المفسرين على أن المتقين لا تنالهم نار جهنم . واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير منكم لجميع المخاطبين بالقرآن ، ورووه عن بعض السلف ؛ فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب ، فسلكوا مسالك من التأويل ، فمنهم من تأول الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى ، وهذا بعد عن الاستعمال ، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المورد لأن أصله من ورود الحوض . وفي آي القرآن ما جاء إلا لمعنى المصير إلى النار كقوله تعالى ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) وقوله ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) وقوله ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) . على أن إيراد المؤمنين إلى النار لا جدوى له فيكون عبثا ، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر مما سماه فوائد .

[ ص: 152 ] ومنهم من تأول ورود جهنم بمرور الصراط ، وهو جسر على جهنم ، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز . وهذا أقل بعدا من الذي قبله .

وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي في نوادر الأصول . وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم الحديث في مرور الصراط .

ومن الناس من لفق تعضيدا لذلك بالحديث الصحيح : أنه لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله تعالى ( وإن منكم إلا واردها ) وهذا محمل باطل ، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل ، وإنما معنى الحديث : أن من استحق عذابا من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النار إلا ولوجا قليلا يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم ، أي التحلل منه . وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه ، فقوله تحلة القسم تمثيل .

ويروى عن بعض السلف روايات ، أنهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية . من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة ، وعن الحسن البصري ، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل .

وذكر فعل نذر هنا دون غيره للإشعار بالتحقير ، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم ، لأن في فعل الترك معنى الإهمال .

والحتم : أصله مصدر حتمه إذ جعله لازما ، وهو هنا بمعنى المفعول ، أي محتوما على الكافرين ، والمقضي : المحكوم به . وجثي تقدم .

[ ص: 153 ] وقرأ الجمهور ثم ( ننجي ) بفتح النون الثانية وتشديد الجيم وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية