صفحة جزء
فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى

) تفريع التولي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يضع الوقت للتهيئة له .

والتولي : الانصراف ، وهو هنا مستعمل في حقيقة ، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيث يرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عرفوا بعلم السحر ، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات ( ثم أدبر يسعى فحشر فنادى ) .

ومعنى جمع الكيد : تدبير أسلوب مناظرة موسى ، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه ، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس على شيء .

وهذا أسلوب قديم في المناظرات : أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير ، ومبادأته بما يفت في عضده ويشوش رأيه حتى يذهب منه تدبيره .

[ ص: 248 ] فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي ، واستقصاء ترتيب الأمر ، كقوله ( فأجمعوا أمركم ) ، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى . ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده ، أي جمع السحرة ، على حد قوله تعالى ( فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ) .

والكيد : إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله . وقد تقدم عند قوله تعالى ( إن كيدي متين ) في سورة الأعراف .

ومعنى ( ثم أتى ) ثم حضر الموعد ، و ( ثم ) للمهلة الحقيقية والرتبية معا ، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد ، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهم من جمع الكيد ، لأن فيه ظهور أثر ما أعده .

وجملة ( قال لهم موسى ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن قوله ( ثم أتى ) يثير سؤالا في نفس السامع أن يقول : فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد . وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة .

وضمير ( لهم ) عائد إلى معلوم من قوله ( فلنأتينك بسحر مثله ) أي بأهل سحر ، أو يكون الخطاب للجميع ، لأن ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته ، فيكون معاد الضمير ما دل عليه قوله ( فجمع كيده ثم أتى ) ، أي جمع رجال كيده .

والخطاب بقوله ( ويلكم ) يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء ، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون : إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجها به فرعون بل واجه به السحرة خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى ( فجمع كيده ) ، أي قال موسى لأهل كيد فرعون ؛ وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة ، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر ، أغلظ القول زجرا له بأمر خاص من الله في تلك [ ص: 249 ] الساعة تقييدا لمطلق الأمر بإلانة القول ، كما أذن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الآيات في سورة الحج ؛ وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أن سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربهم الأعلى وقالوا : ( بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) رأى واجبا عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع ، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة .

ويجوز أن تكون كلمة ويلكم مستعملة في التعجب من حال غريبة ، أي أعجب منكم وأحذركم ، كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير : ويل أمه مسعر حرب فحكي تعجب موسى باللفظ العربي الدال على العجب الشديد .

والويل : اسم للعذاب والشر ، وليس له فعل .

وانتصب ( ويلكم ) إما على إضمار فعل على التحذير أو الإغراء ، أي الزموا ويلكم ، أو احذروا ويلكم ؛ وإما على إضمار حرف النداء فإنهم يقولون : يا ويلنا ، ويا ويلتنا ، وتقدم عند قوله تعالى ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) في سورة البقرة .

والافتراء : اختلاق الكذب . والجمع بينه وبين كذبا للتأكيد ، وقد تقدم عند قوله تعالى ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) في سورة العقود .

والافتراء الذي عناه موسى هو ما يخيلونه للناس من الشعوذة ، ويقولون لهم : انظروا كيف تحرك الحبل فصار ثعبانا ، ونحو ذلك من توجيه التخيلات بتمويه أنها حقائق ، أو قولهم : ما نفعله تأييد من الله لنا ، أو قولهم : أن موسى كاذب وساحر ، أو قولهم : إن فرعون إلههم ، أو آلهة فرعون آلهة . وقد كانت مقالات كفرهم أشتاتا .

[ ص: 250 ] قرأ الجمهور ( فيسحتكم ) - بفتح الياء - مضارع سحته : إذا استأصله ، وهي لغة أهل الحجاز . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، ورويس عن يعقوب - بضم الياء التحتية - من أسحته ، وهي لغة نجد وبني تميم ، وكلتا اللغتين فصحى .

وجملة ( وقد خاب من افترى ) في موضع الحال من ضمير ( لا تفتروا ) وهي مسوقة مساق التعليل للنهي ، أي اجتنبوا الكذب على الله فقد خاب من افترى عليه من قبل . بعد أن وعظهم فنهاهم عن الكذب على الله وأنذرهم عذابه ضرب لهم مثلا بالأمم البائدة الذين افتروا الكذب على الله فلم ينجحوا فيما افتروا لأجله .

و ( من ) الموصولة للعموم .

وموقع هذه الجملة بعد التي قبلها كموقع القضية الكبرى من القياس الاقتراني .

وفي كلام موسى إعلان بأنه لا يتقول على الله ما لم يأمره به لأنه يعلم أنه يستأصله بعذاب ويعلم خيبة من افترى على الله ، ومن كان يعلم ذلك لا يقدم عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية