صفحة جزء
وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون

جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفا على جملة اقترب للناس حسابهم إلى آخرها ؛ لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها . فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم ، وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى " للناس " وليست جملة وأسروا النجوى عطفا على جملة استمعوه وهم يلعبون ؛ لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لما يأتيهم من ذكر . [ ص: 13 ] و " الذين ظلموا " بدل من واو الجماعة ؛ لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى ؛ ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم ، وللنداء على قبح ما هم متصفون به . وجملة هل هذا إلا بشر مثلكم بدل من " النجوى " ؛ لأن ذلك هو ما تناجوا به . فهو بدل مطابق . وليست هي كجملة قالوا إن هذان لساحران من جملة فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى في سورة طه ، فإن تلك بدل بعض من كل ؛ لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى .

ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به ؛ لئلا يتصدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرد عليهم ؛ لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية ، يرومون بها أن يضللوا الدهماء ، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما تكاثر بمكة الذين أسلموا ، فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام ، فاختلوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم .

والنجوى : المحادثة الخفية . والإسرار : هو الكتمان والكلام الخفي جدا . وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم في سورة براءة ، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولا لـ " أسروا " في قوله تعالى : وأسروا النجوى في " سورة طه " ، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان ، وبالغوا في إخفائها ؛ لأن شأن التشاور في المهم كتمانه ؛ كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده .

والاستفهام في قوله : هل هذا إلا بشر مثلكم إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم .

[ ص: 14 ] وكذلك الاستفهام في قوله : أفتأتون السحر إنكاري ، وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم . والمعنى : أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به ، فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه .

وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة ؛ لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه ، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبيء - صلى الله عليه وسلم - لسماع دعوته ، فجعلوه إتيانا ؛ لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها ، وجعلوا كلامه سحرا ؛ فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه . وهذا كقوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون في سورة فصلت .

وقوله : وأنتم تبصرون في موضع الحال ، أي تأتون السحر وبصركم سليم ، وأرادوا به العلم البديهي ، فعبروا عنه بالبصر ؛ لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية