صفحة جزء
[ ص: 30 ] وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين

كثر في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نظمها وسننها وفطرها ، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مجارية لما تقتضيه الحكمة ؛ ولذلك قال تعالى في سورة الحجر : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق . وقد بينا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا . وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت النسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبسا بالحق ، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عمتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام - وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاء ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقا .

فلذلك كثر أن تعقب الآيات المبينة لما في الخلق من الحق بالآيات التي تذكر الجزاء والحساب ، والعكس ، كقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون في آخر سورة المؤمنين ، وقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل آخر الحجر ، وقوله تعالى [ ص: 31 ] إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار في سورة " ص " ، وقوله تعالى : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين في سورة الدخان ، وقوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون في سورة الأحقاف إلى غير هذه الآيات .

فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلكين ، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كل مخلوق ما به قوامه ، فإذا كانت تلك سنة الله في خلق العوالم ظرفها ومظروفها ، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال ، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت ، فإذا أعلمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به ، وإذا علمهم أنهم لا يفارقون ذلك بالموت بل إن لهم حياة آخرة وأن الله باعثهم بعد الموت - أيقنوا بها ، وإذا أعلمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به .

ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة ، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض .

[ ص: 32 ] وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار الآيات ختام سورة " آل عمران " .

ولأجل هذا اطرد - أو كاد أن يطرد - ذكر لفظ " وما بينهما " بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام ؛ لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به ؛ لأن أشرفه نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف . فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعبا منظورا فيه إلى رد اعتقاد معتقد ذلك ، ولكنه بني على النفي أخذا لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعبا .

واللعب : العمل أو القول الذي لا يقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ، ولا تحصيل نفع أو دفع ضر ، وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل : لا بد للعاقل من حمقة يعيش بها . ويرادفه العبث واللهو ، وضده : الجد . واللعب من الباطل ؛ إذ ليس في عمله حكمة فضده الحق أيضا .

وانتصب " لاعبين " على الحال من ضمير " خلقنا " وهي حال لازمة ؛ إذ لا يستقيم المعنى بدونها . وجملة لو أردنا أن نتخذ لهوا مقررة لمعنى جملة وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ، تقريرا بالاستدلال على مضمون الجملة ، وتعليلا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبا ، أي عبثا بأن اللعب ليس من شأننا ، أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو [ ص: 33 ] لكان ما يلهو به حاصلا في أشرف الأماكن من السماوات ، فإنها أشد اختصاصا بالله تعالى ؛ إذ جعل سكانها عبادا له مخلصين ؛ فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو " لدن " مضافا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى : " من لدنا " أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عالم الغيب الذي هو أشد اختصاصا بنا ؛ إذ هو عالم الملائكة المقربين . فالظرفية المفادة من " لدن " ظرفية مجازية . وإضافة " لدن " إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل ، كقوله تعالى : رزقا من لدنا في سورة القصص ، وقوله تعالى : وهب لنا من لدنك رحمة في آل عمران ، أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كان اتخاذه في عالم شهادتكم . وهذا استدلال باللزوم العرفي ؛ لأن شأن من يتخذ شيئا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره ، وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى .

وجملة إن كنا فاعلين إن جعلت " إن " شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب " لو " وهو جملة " لاتخذناه " ، فيكون تكريرا للتلازم ، وإن جعلت " إن " حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من " لو " أي : ما كنا فاعلين لهوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية