صفحة جزء
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم

لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مخلصا إلا بإهلاكه ، وكذلك المبطل إذا قرعت باطله حجة فساده غضب على المحق ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته والتشفي منه ، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عجزوا عن المعارضة ، واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعاقب به وأفظعه .

والتحريق : مبالغة في الحرق ، أي حرقا متلفا .

وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملكهم ، وهو النمروذ إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام . قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كردي اسمه هينون ، واستحسن القوم ذلك ، والذي أمر بالإحراق نمروذ ، فالأمر في قولهم ( حرقوه ) مستعمل في المشاورة .

ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم ، وأنهم دبروه ليبغتوه به خشية هروبه لقوله تعالى وأرادوا به كيدا .

ونمروذ هذا يقولون : إنه ابن كوش بن حام بن نوح . ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن كوش . فالصواب أن نمروذ [ ص: 106 ] من نسل ( كوش ) ، ويحتمل أن تكون كلمة ( نمروذ ) لقبا لملك الكلدان وليست علما ، والمقدر في التاريخ أن ملك مدينة أور في زمن إبراهيم هو ( ألغى بن أورخ ) وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك في سورة البقرة .

ونصر الآلهة بإتلاف عدوها .

ومعنى إن كنتم فاعلين إن كنتم فاعلين النصر . وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم .

وجملة قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم مفصولة عن التي قبلها : إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم ( حرقوه ) فأشبهت جمل المحاورة ، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق ، وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى ، أي فألقوه في النار قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم إذ وجه إلى النار تعلق الإرادة بسلب قوة الإحراق ، وأن تكون بردا وسلاما إن كان الكلام على الحقيقة ، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقى فيك بحرك .

وأما كونها سلاما فهو حقيقة لا محالة ، وذكر ( سلاما ) بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد ، فعقب ذكره بذكر السلام لذلك . وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها ، وإنما ذكر ( بردا ) ثم أتبع بـ ( سلاما ) ولم يقتصر على ( بردا ) لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صير النار بردا ، و ( على إبراهيم ) يتنازعه ( بردا وسلاما ) . وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له . ويجوز أن يتعلق بفعل الكون .

التالي السابق


الخدمات العلمية