صفحة جزء
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .

ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط . فالتقدير : الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت . ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة : إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما ، للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر ، وهو من شواهد كتاب سيبويه التي لم يعرف قائلها :


وقائلة : خولان فانكح فتاتهـم وأكرومة الحيين خلو كما هيا

التقدير : هذه خولان ، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت . ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا : الفاء زائدة في الخبر . وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما في سورة العقود .

وصيغتا ( الزانية والزاني ) صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال ، فكأنه قيل : التي تزني [ ص: 146 ] والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ . ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه .

ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة . فتكون آية الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة تمهيدا ومقدمة لقوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى . ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها .

وقدم ذكر ( الزانية ) على ( الزاني ) للاهتمام بالحكم ; لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكينا ، فتقديم المرأة في الذكر ; لأنه أشد في تحذيرها . وقوله كل واحد منهما للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر .

وتعريف ( الزانية والزاني ) تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا ومقام التشريع يقتضيه ، وشأن ( أل ) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعد الوصف عن مشابهة الفعل ، فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه . وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد ، فـ ( الزانية والزاني ) من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى .

والزنى : اسم مصدر زنى ، وهو الجماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر ، يقال : زنى الرجل وزنت المرأة ، ويقال : زانى بصيغة المفاعلة ; لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمد أيضا بوزن الفعال ويخفف همزه فيصير اسما مقصورا . وأكثر ما كان في الجاهلية أن [ ص: 147 ] يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض ، فإن كان بعوض فهو البغاء . يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك . وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي . وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى : ولا تقربوا الزنى في سورة الإسراء .

والجلد : الضرب بسير من جلد . مشتق من الجلد بكسر الجيم ; لأنه ضرب الجلد . أي : البشرة ، كما اشتق الجبه ، والبطن ، والرأس في قولهم : جبهه إذا ضرب جبهته ، وبطنه إذا ضرب بطنه ، ورأسه إذا ضرب رأسه . قال في الكشاف : وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اهـ . أي : لا يكون الضرب يطير الجلد حتى يظهر اللحم ، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج .

واتفق فقهاء الأمصار على أن ضرب الجلد بالسوط . أي : بسير من جلد . والسوط : هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور ، وأن يكون السوط متوسط اللين ، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطا . ومحل الجلد هو الظهر عن مالك . وقال الشافعي : تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج . وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل ، ومنها الرأس في الحد . روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد : اجلد رجليها وأسفلها ، فقال له ابنه عبد الله : فأين قول الله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فقال : فاقتها . وقوله : ( كل واحد منهما ) تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال : فاجلدوهما ، كما قال : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما . وتذكير ( كل واحد ) تغليب للمذكر مثل وكانت من القانتين .

والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء وقال مالك والشافعي وأحمد : يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى ، وقال أبو حنيفة : لا يقيمه [ ص: 148 ] إلا الإمام . وقال مالك : لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر .

وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى ; لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرئ القيس .


تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا     علي حراصا لو يسرون مقتلي

وقول عبد بني الحسحاس :


وهن بنات القوم إن يشعروا بـنـا     يكن في بنات القوم إحدى الدهارس

الدهارس : الدواهي . ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه . وفي الموطأ عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم . فقال : تكلم . فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت به بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك . وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها . قال مالك : والعسيف : الأجير اهـ .

فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية ، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني ، أي : بالعقاب الموجع ، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها . وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل ; لأن الأذى صالح لأن يبين بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت [ ص: 149 ] بالنسبة إلى المرأة بقوله : أو يجعل الله لهن سبيلا ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة .

ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعم المحصن وغيره ، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء . فأما من أحصن منهما ، أي : تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت . وكان ذلك سنة متواترة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم ، ورجم ماعز بن مالك . وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثرا من آثار تواترها .

وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن ( الثيب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة ) وفي رواية ( الشيخ والشيخة ) وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته . وفي أحكام ابن الفرس في سورة النساء : ( وقد أنكر هذا قوم ) . ولم أر من عين الذين أنكروا . وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون : ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم .

ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور . وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم : أكان قبل سورة النور أو بعدها ؟ يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس ، أي : أن الرجم منسوخ بالجلد فقال ابن أبي أوفى : لا أدري . وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم . وهذا يقتضي أنه كان معمولا به بعد سورة النور ; لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم .

وقد ثبت بالسنة أيضا تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة ، ولا تغريب على المرأة . وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد [ ص: 150 ] الإمام إن رأى تغريبه لدعارته . وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية