صفحة جزء
وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا .

مناسبة موقع هذا الاستدلال بعد ما قبله أنه استدلال بدقيق آثار القدرة في تكوين المياه وجعلها سبب حياة مختلفة الأشكال والأوضاع . ومن أعظمها دقائق الماء الذي خلق منه أشرف الأنواع التي على الأرض وهو نطفة الإنسان بأنها سبب تكوين النسل للبشر ، فإنه يكون أول أمره ماء ، ثم يتخلق منه البشر العظيم ، فالتنوين في قوله ( بشرا ) للتعظيم .

والقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إفراد لإبطال دعوى شركة الأصنام لله في الإلهية .

والبشر : الإنسان . وقد تقدم في قوله تعالى : ( فتمثل لها بشرا سويا ) في سورة مريم . والضمير المنصوب في ( فجعله ) عائد إلى البشر ، أي : فجعل البشر الذي خلقه من الماء نسبا وصهرا ، أي : قسم الله البشر قسمين نسب ، وصهر . فالواو للتقسيم بمعنى ( أو ) والواو أجود من ( أو ) في التقسيم .

و ( نسبا وصهرا ) مصدران سمي بهما صنفان من القرابة على تقدير : ذا نسب وصهر وشاع ذلك في الكلام .

والنسب لا يخلو من أبوة وبنوة وأخوة لأولئك وبنوة لتلك الأخوة .

وأما الصهر فهو : اسم لما بين المرء وبين قرابة زوجه وأقاربه من العلاقة ، ويسمى أيضا مصاهرة ؛ لأنه يكون من جهتين ، وهو آصرة اعتبارية تتقوم بالإضافة إلى ما تضاف إليه ، فصهر الرجل قرابة امرأته ، وصهر المرأة قرابة زوجها ، ولذلك يقال : صاهر فلان فلانا إذا تزوج من قرابته ولو قرابة بعيدة كقرابة القبيلة . وهذا لا يخلو عنه البشر المتزوج وغير المتزوج .

ويطلق الصهر على من له مع الآخر علاقة المصاهرة من إطلاق المصدر في [ ص: 56 ] موضع الوصف ، فالأكثر حينئذ أن يخص بقريب زوج الرجل ، وأما قريب زوج المرأة فهو ختن لها أو حم . ولا يخلو أحد عن آصرة صهر ولو بعيدا . وقد أشار إلى ما في هذا الخلق العجيب من دقائق نظام إيجاد طبيعي واجتماعي بقوله : ( وكان ربك قديرا ) ، أي : عظيم القدرة إذ أوجد من هذا الماء خلقا عظيما صاحب عقل وتفكير فاختص باتصال أواصر النسب وأواصر الصهر ، وكان ذلك أصل نظام الاجتماع البشري لتكوين القبائل والشعوب وتعاونهم مما جاء بهذه الحضارة المرتقية مع العصور والأقطار قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .

وفي تركيب ( وكان ربك قديرا ) من دقيق الإيذان بأن قدرته راسخة واجبة له متصف بها في الأزل بما اقتضاه فعل ( كان ) ، وما في صيغة ( قدير ) من الدلالة على قوة القدرة المقتضية تمام الإرادة والعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية