صفحة جزء
والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما

أتبع خصال المؤمنين الثلاث التي هي قوام الإيمان بخصال أخرى من خصالهم هي من كمال الإيمان ، والتخلق بفضائله ، ومجانبة أحوال أهل الشرك . وتلك ثلاث خصال أولاها أفصح عنه قوله هنا : ( والذين لا يشهدون الزور ) الآية .

وفعل شهد يستعمل بمعنى حضر وهو أصل إطلاقه كقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ، ويستعمل بمعنى أخبر عن شيء شهده وعلمه كقوله تعالى : ( وشهد شاهد من أهلها ) .

والزور : الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب . وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية : أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون ، وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها ، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم ، فيكون الزور مفعولا به لـ ( يشهدون ) . وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم . فأما شهود مواطن عبادة الأصنام فذلك قد دخل في قوله : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) . وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأنعام : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) ويجوز أن [ ص: 79 ] يكون فعل ( يشهدون ) بمعنى الإخبار عما علموه ويكون الزور منصوبا على نزع الخافض ، أي لا يشهدون بالزور ؛ أو مفعولا مطلقا لبيان نوع الشهادة ، أي لا يشهدون شهادة هي زور لا حق .

وقوله ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) مناسب لكلا الجملتين .

واللغو : الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه . وتقدم في قوله تعالى : ( لا يسمعون فيها لغوا ) في سورة مريم . ومعنى المرور به المرور بأصحابه اللاغين في حال لغوهم ، فجعل المرور بنفس اللغو للإشارة إلى أن أصحاب اللغو متلبسون به وقت المرور .

ومعنى ( مروا كراما ) أنهم يمرون وهم في حال كرامة ، أي : غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه ، فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنسوا بهم ووقفوا عليهم وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة .

والكرامة : النزاهة ومحاسن الخلال ، وضدها اللؤم والسفالة . وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى : ( أنبتنا فيها من كل زوج كريم ) . وقال بعض شعراء حمير في الحماسة :


ولا يخيم اللقـاء فـارسـهـم حتى يشق الصفوف من كرمه



أي : شجاعته ، وقال تعالى : ( وأعد لهم أجرا كريما ) .

وإذا مر أهل المروءة على أصحاب اللغو تنزهوا عن مشاركتهم وتجاوزوا ناديهم فكانوا في حال كرامة ، وهذا ثناء على المؤمنين بترفعهم على ما كانوا عليه في الجاهلية كقوله تعالى : ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) ، وقوله : ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) .

وإعادة فعل ( مروا ) لبناء الحال عليه ، وذلك من محاسن الاستعمال ، كقول الأحوص :


فإذا تزول تزول عن متخمط     تخشى بوادره على الأقران

[ ص: 80 ] ومنه قوله تعالى : ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ) كما ذكره ابن جني في شرح مشكل أبيات الحماسة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية