صفحة جزء
إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين .

استئناف بياني ناشئ عن قوله : ( ألا يكونوا مؤمنين ) ؛ لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالا عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا ، كما قال موسى : ( ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، فأجيب بأن الله قادر على ذلك فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى .

[ ص: 95 ] ومفعول ( نشأ ) محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول المشيئة . والتقدير : إن نشأ تنزيل آية ملجئة ننزلها .

وجيء بحرف ( إن ) الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه .

ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار ؛ لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدأ ظهوره ، فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديدا محسوسا بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب . وهذا من معنى قوله تعالى : ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) ، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن .

وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشد تخويفا لقلة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه . فإن قلت : لماذا لم يرهم آية كما أري بنو إسرائيل نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة ؟ قلت : كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ، ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم : ( أرني كيف تحي الموتى ) .

وفرع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) بفاء التعقيب .

وعطف ( فظلت ) وهو ماض على المضارع قوله : ( ننزل ) ؛ لأن المعطوف عليه جواب شرط ، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي ؛ لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال ؛ ألا ترى أنه لو قيل : إن شئنا نزلنا أو إن نشأ نزلنا لكان سواء ؛ إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارعية والماضوية ، على أن المعطوفات يتسع فيها ما لا يتسع في المعطوف عليها لقاعدة : أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من مغني اللبيب ، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز ، وهي هنا أمران : [ ص: 96 ] التفنن بين الصيغتين ، وتقريب زمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتم ذلك سريعا حتى يخيل لهم من سرعة حصوله أنه أمر مضى ؛ فلذلك قال : ( فظلت ) ولم يقل : فتظل . وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) . وكلاهما للتهديد ، ونظيره لقصد التشويق : قد قامت الصلاة .

والخضوع : التطامن والتواضع . ويستعمل في الانقياد مجازا ؛ لأن الانقياد من أسباب الخضوع . وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي ، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلة بحال الخاضعين الذين يتقون أن تصيبهم قاصمة على رءوسهم فهم يطأطئون رءوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم .

والأعناق : جمع عنق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة ، وهو مؤنث . وقيل : المضموم النون مؤنث والساكن النون مذكر .

ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى : ( وخشعت الأصوات للرحمن ) أي : أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى :


كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

فأسند الفرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي ؛ لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخفية . ومنه قوله تعالى : ( سحروا أعين الناس ) ، وإنما سحروا الناس سحرا ناشئا عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم ، مع ما يزيد به قوله : ( ظلت أعناقهم لها خاضعين ) من الإشارة إلى تمثيل حالهم ، ومقتضى الظاهر : فظلوا لها خاضعين بأعناقهم .

وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله ( خاضعين ) على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد ( خاضعين ) إلى ( أعناقهم ) ؛ لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها : خاضعة ، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل . وعن مجاهد : أن الأعناق هنا جمع عنق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم ، أي فظلت سادتهم ، يعني الذين أغروهم [ ص: 97 ] بالكفر خاضعين ، فيكون الكلام تهديدا لزعمائهم الذين زينوا لهم الاستمرار على الكفر ، وهو تفسير ضعيف . وعن ابن زيد ، والأخفش : الأعناق الجماعات واحدها عنق بضمتين جماعة الناس ، أي : فظلوا خاضعين جماعات جماعات ، وهذا أضعف من سابقه .

ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ، ويلحقهم هوان بعد عزة ، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي الله عنه أن يقوله ، وهو الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعلمه التأويل . وهذا من موضوعات دعاة المسودة مثل أبي مسلم الخراساني ، وكم لهم في الموضوعات من اختلاق ، والقرآن أجل من أن يتعرض لهذه السفاسف .

وقرأ الجمهور ( ننزل ) بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بضم النون الأولى وتخفيف الزاي .

التالي السابق


الخدمات العلمية