[ ص: 116 ] قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين   . 
لما لم يرج تهويله على 
موسى    - عليه السلام - وعلم أنه غير مقلع عن دعوته - تنفيذا لما أمره الله - ثنى عنان جداله إلى تلك الدعوة فاستفهم عن حقيقة رب العالمين الذي ذكر 
موسى  وهارون  أنهما مرسلان منه إذ قالا : ( 
إنا رسول رب العالمين   ) وإظهار اسم 
فرعون  مع أن طريقة حكاية المقاولات والمحاورة يكتفى فيها بضمير القائلين بطريقة قال قال ، أو قال فقال ، فعدل عن تلك الطريقة إلى إظهار اسمه لإيضاح صاحب هذه المقالة لبعد ما بين قوله هذا وقوله الآخر . 
والواو عاطفة هذا الاستفهام على الاستفهام الأول الذي وقع كلام 
موسى  فاصلا بينه وبين ما عطف عليه . 
وحرف ( ما ) الغالب فيه أن يكون للسؤال عن حقيقة الاسم بعده التي تميزه عن غيره ، ولذلك يسأل بها عن تعيين القبيلة ، ففي حديث الوفود أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : ( ما أنتم ) ، 
ففرعون  سأل 
موسى    - عليه السلام - تبيين حقيقة هذا الذي وصفه بأنه ( 
رب العالمين   ) ، فقد كانت عقائد القبط تثبت آلهة متفرقة قد اقتسمت التصرف في عناصر هذا العالم وأجناس الموجودات ، وتلك العناصر هي العالمون ولا يدينون بإله واحد ، فإن 
تعدد الآلهة المتصرفة ينافي وحدانية التصرف ، فلما سمع 
فرعون  من كلام 
موسى  إثبات رب العالمين قرع سمعه بما لم يألفه من قبل لاقتضائه إثبات إله واحد وانتفاء الإلهية عن الآلهة المعروفة عندهم ، على أنهم كانوا يزعمون أن 
فرعون  هو المجتبى من الآلهة ليكون ملك 
مصر    . فهو مظهر الآلهة الأخرى في تدبير المملكة ( 
قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي   ) . وبهذا الانتساب إلى الآلهة وتمثيله إرادتهم في الأرض كان 
فرعون  يدعى إلها . 
وقد كانت الأمم يومئذ في غفلة عما عدا أنفسها فكانوا لا يفكرون في مختلف أحوال الأمم وعوائد البشر . ولا تشعر كل أمة إلا بنفسها وخصائصها من آلهتها وملوكها ، فكان الملك لا يشيع في أمته غير قوته وانتصاره على الثائرين ، ويخيل للناس أن العالم منحصر في تلك الرقعة من الأرض . فلا تجد في آثار القبط   
[ ص: 117 ] صورا للأمم غير صور القبائل الذين يغزوهم 
فرعون  ويأتي بأسراهم في الأغلال والسلاسل خاضعين عابدين حتى يخيل لقومه أنه لما غلب أولئك فقد كان قهار البشر كلهم ، ويخفي أخبار انكساره إلا إذا لحقه غلب عظيم من أمة كبرى بحيث لا يستطيع إخفاءه ، فحينئذ ينتقل أسلوب التاريخ عندهم وتنتحل الدولة الجديدة أساليب الدولة الماضية وتنسى حوادث الماضي وتغلب على مخيلاتهم الحالة الحاضرة ، وللدعاة والمروجين أثر كبير في ذلك . وبهذا يتضح باعث فرعون على هذا السؤال الذي ألقاه على 
موسى ،  وهو استفهام مشوب بتعجب وإنكار على طريق الكناية . 
ومن دقائق هذه المجادلة أن الاستفسار مقدم في المناظرات ، ولذلك ابتدأ 
فرعون  بالسؤال عن حقيقة الذي أرسل 
موسى    - عليه السلام . 
وكان 
جواب موسى  عليه السلام بيانا لحقيقة رب العالمين بما يصير وصفه برب العالمين نصا لا يحتمل غير ما أراده من ظاهره ، فأتى بشرح اللفظ بما هو تفصيل لمعناه ، إذ قال : ( 
رب السماوات والأرض وما بينهما   ) ، فبذكر السماوات والأرض وبعموم ما بينهما حصل بيان حقيقة المسئول عنه بـ ( ما ) . ومرجع هذا البيان إلى أنه تعريف لحقيقة الرب بخصائصها ؛ لأن ذلك غاية ما تصل إليه العقول في معرفة الله أن يعرف بآثار خلقه ، فهو تعريف رسمي في الاصطلاح المنطقي . 
وانتظم السؤال والجواب على طريقة السؤال بكلمة ( ما ) عن الجنس . وهو جار على الوجه الأول من وجوه ثلاثة في تقرير السؤال ، والجواب من كلام الكشاف ، وهو أيضا مختار 
السكاكي  في قانون الطلب من كتاب المفتاح ، وطابق الجواب السؤال تمام المطابقة . 
وأشار صاحب الكشاف وصرح صاحب المفتاح بأن جواب 
موسى  بما يبين حقيقة ( 
رب العالمين   ) تضمن تنبيها على أن 
الاستدلال على ثبات الخالق الواحد يحصل بالنظر في السماوات والأرض وما بينهما نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقة الرب الواحد الممتازة عن حقائق المخلوقات . 
ولهذا أتبع بيانه بقوله : ( 
إن كنتم موقنين   ) ، أي كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين . وسمي العلم بذلك إيقانا ؛ لأن شأن اليقين   
[ ص: 118 ] بأن خالق السماوات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره . 
وضمير الجمع في ( 
كنتم موقنين   ) مراد به جميع حاضري مجلس 
فرعون  ، أراد 
موسى  تشريكهم في الدعوة تقصيا لكمال الدعوة وأن مؤاخذة القائل لا تقع إلا بعد اتضاح مراده من مقاله إذ لا يؤاخذ بالمجاملات . ومن هذا قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون  فيمن صدر منه قول أو فعل يستلزم كفرا : إنه يحضر ويوقف على لازم قوله فإن فهمه والتزم ما يلزمه حينئذ يعتبر مرتدا ويستتاب ثلاثة أيام بعد ذلك .