صفحة جزء
[ ص: 245 ] وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين .

صيغة التفعل تدل على التكلف ، والتكلف : الطلب . واشتقاق ( تفقد ) من الفقد يقتضي أن ( تفقد ) بمعنى طلب الفقد . ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد ، أي : معرفة ما أحدثه الفقد في شيء ، فالتفقد : البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند ; لأن كثيرا من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل ، ومنه الهدهد أيضا لمعرفة الماء ، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ، ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد . وللطير جنود يقومون بشئونها . وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها . والمعنى : تفقد الطير في جملة ما تفقده فقال لمن يلون أمر الطير : ما لي لا أرى الهدهد .

ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية ، أو بمن يكل إليه ذلك فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال .

والهدهد : نوع من الطير وهو ما يقرقر وفي رائحته نتن وفوق رأسه قزعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن به ماء ، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان . قال الجاحظ : يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها .

وقوله : ما لي لا أرى الهدهد استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد ، ف ( ما ) استفهام . واللام من قوله ( لي ) للاختصاص . والمجرور [ ص: 246 ] باللام خبر عن ( ما ) الاستفهامية . والتقدير : ما الأمر الذي كان لي .

وجملة ( لا أرى الهدهد ) في موضع الحال من ياء المتكلم المجرور باللام ، فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال ، أي : عن المانع لرؤية الهدهد . والكلام موجه إلى خفرائه . يعني : أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد ؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد .

و ( أم ) منقطعة ; لأنها تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين . و ( أم ) لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر . والتقدير : بل أكان من الغائبين ؟ وليست ( أم ) المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام .

وصاحب المفتاح مثل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض . ولما كان قول سليمان هذا صادرا بعد تقصيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال : لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ; لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه ، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه أو إعداما له لئلا يلقن بالفساد غيره فيدخل الفساد في الجند ويكون عقابه نكالا لغيره . فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود . ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عين له من عمل أو تغيب عنه .

وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله . قال القرافي في تنقيح الفصول في آخر فصوله : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهر الموذي هل يجوز ؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اهـ . قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك ، فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله . قال القرافي : وقال أبو حنيفة : إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة اهـ .

[ ص: 247 ] وقال الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة : ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها . فقول سليمان : لأعذبنه عذابا شديدا شريعة منسوخة .

أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير ، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش .

و ( أو ) تفيد أحد الأشياء فقوله : أو ليأتيني بسلطان مبين جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول .

والسلطان : الحجة . والمبين : المظهر للحق المحتج بها . وهذه الزيادة من النبيء سليمان استقصاء للهدهد في حقه ; لأن الغائب حجته معه .

وأكد عزمه على عقابه بتأكيد الجملتين ( لأعذبنه ) ( لأذبحنه ) باللام المؤكدة التي تسمى لام القسم وبنون التوكيد ليعلم الجند ذلك حتى إذا فقد الهدهد ولم يرجع يكون ذلك التأكيد زاجرا لباقي الجند عن أن يأتوا بمثل فعلته فينالهم العقاب .

وأما تأكيد جملة أو ليأتيني بسلطان مبين فلإفادة تحقيق أنه لا منجى له من العقاب إلا أن يأتي بحجة تبرر تغيبه ; لأن سياق تلك الجملة يفيد أن مضمونها عديل العقوبة . فلما كان العقاب مؤكدا محققا فقد اقتضى تأكيد المخرج منه ؛ لئلا يبرئه منه إلا تحقق الإتيان بحجة ظاهرة لئلا تتوهم هوادة في الإدلاء بالحجة فكان تأكيد العديل كتأكيد معادله . وبهذا يظهر أن ( أو ) الأولى للتخيير و ( أو ) الثانية للتقسيم . وقيل : جيء بتوكيد جملة ( ليأتيني ) مشاكلة للجملتين اللتين قبلها وتغليبا . واختاره بعض المحققين وليس من التحقيق .

وكتب في المصاحف ( لا أذبحنه ) بلام ألف بعدها ألف حتى يخال أنه نفي الذبح ، وليس بنفي ; لأن وقوع نون التوكيد بعده يؤذن بأنه إثبات ; إذ لا يؤكد المنفي بنون التأكيد إلا نادرا في كلامهم ؛ ولأن سياق الكلام والمعنى حارس من تطرق [ ص: 248 ] احتمال النفي ؛ ولأن اعتماد المسلمين في ألفاظ القرآن على الحفظ لا على الكتابة ، فإن المصاحف ما كتبت حتى قرئ القرآن نيفا وعشرين سنة . وقد تقع في رسم المصحف أشياء مخالفة لما اصطلح عليه الراسمون من بعد ; لأن الرسم لم يكن على تمام الضبط في صدر الإسلام وكان اعتماد العرب على حوافظهم .

وقرأ ابن كثير ( أو ليأتينني ) بنونين الأولى مشددة وهي نون التوكيد والثانية نون الوقاية . وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة بحذف نون الوقاية لتلاقي النونات .

التالي السابق


الخدمات العلمية