صفحة جزء
عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين

عالم الغيب خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله وهو الحكيم الخبير في قراءة من قرأه بالرفع ، وصفة ل - ( ربي ) المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكره مناسبة تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس . وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون .

والغيب تقدم في قوله الذين يؤمنون بالغيب على معان ذكرت هنالك .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ورويس عن يعقوب ( عالم الغيب ) بصيغة اسم الفاعل ، وبرفع ( عالم ) على القطع . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وخلف ، وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضا ومجرورا على الصفة لاسم الجلالة في قوله ( وربي ) .

وقرأ حمزة ، والكسائي ( علام ) بصيغة المبالغة وبالجر على النعت . وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلا سفسطائيا على أنها ليست بواقعة ولذلك سماها القرآن ( الواقعة ) في قوله إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة [ ص: 141 ] والعزوب : الخفاء . ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها . قرأ الجمهور بضم الزاي ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى لا يعزب عنه : لا يعزب عن علمه . وقد تقدم في سورة يونس وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء وإن كان مثقال حبة من خردل . وأشار بقوله ( مثقال ذرة ) إلى تقريب معنى إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رفاتا وترابا فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها .

ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض ، وعلمه بها تفصيلا يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة . فإذا عدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزق كان الله عالما بكل جزء فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتنفخ فيها أرواحها . فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو تسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها ، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة ، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها ، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ثم تنمو تلك الأجسام سريعا فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا .

وانظر قوله تعالى يوم يدع الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر في سورة اقتربت الساعة ، وقوله ( يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ) في سورة القارعة فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البيض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلا حتى تصير جرادا وتطير . ولهذا سمى الله ذلك البعث نشأة لأن فيه إنشاء جديدا وخلقا معادا وهو تصوير تلك الأجزاء [ ص: 142 ] بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع روح كل جسد إليه بعد تصويره بما سمي بالنفخ فقال وأن عليه النشأة الأخرى وقال أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان الآية . أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل .

وأشار بقوله ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها ، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية