[ ص: 229 ] وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير هذا تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهديد للذين كذبوه ، فموقع التسلية منه قوله : " وكذب الذين من قبله " ، وموقع التهديد بقية الآية ، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين ، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذبت رسلها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من 
قريش  وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى 
فأهلكنا أشد منهم بطشا   . 
ومفعول " كذب " محذوف دل عليه ما بعده ، أي كذبوا بالرسل ، دل عليه قوله ( 
فكذبوا رسلي   ) . 
وضمير بلغوا عائد إلى الذين من قبلهم ، والضمير المنصوب في آتيناهم عائد إلى الذين كفروا في قوله 
وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ، والمقام يرد على كل ضمير إلى معاده ، كما قريبا عند قوله تعالى 
أكثرهم بهم مؤمنون   . 
والمعشار : العشر ، وهو الجزء العاشر مثل المرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية . 
وذكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله 
وما بلغوا معشار ما آتيناهم لا يستقيم معهما سياق الآية . 
وجملة " 
وما بلغوا معشار ما آتيناهم   " معترضة ، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى 
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه   . 
والفاء في قوله فكذبوا رسلي للتفريع على قوله وكذب الذين من قبلهم ، باعتبار أن المفرع 
فكيف كان نكير ، وبذلك كانت " جملة فكذبوا رسلي " تأكيدا لجملة 
وكذب الذين من قبلهم ونظيره قوله تعالى 
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا في سورة القمر ، ولكون الفاء   
[ ص: 230 ] الثانية في قوله 
فكيف كان نكير تأكيدا لفظيا للفاء في قوله فكذبوا رسلي . 
وقوله 
فكيف كان نكير مفرع على قوله 
وكذب الذين من قبلهم   . 
و " كيف " استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول 
الحجاج  للعديل ابن الفرخ    " فكيف رأيت الله أمكن منك " ، أي أمكنني منك ، في قصة هروبه . 
فجملتا 
فكذبوا رسلي فكيف كان نكير في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة 
وكذب الذين من قبلهم ، والتقدير : وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير على تكذيبهم الرسل ، ولكن لما كانت جملة 
وكذب الذين من قبلهم مقصودا منها تسلية الرسول ابتداء جعلت مقصورة على ذلك اهتماما بذلك الغرض وانتصارا من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم خصت عبرة تسبب التكذيب في العقاب بجملة تخصها تهويلا للتكذيب ، وهو من مقامات الإطناب ، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحدا اتحاد السبب لمسببين أو العلة لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم . وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنبا لثقل إعادة الجملة إعادة ساذجة ففرعت الثانية على الأولى وأظهر فيها مفعول " كذب " وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي ، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى : " 
وكذب الذين من قبلهم   " كما تقدم ، ونظيره قوله تعالى 
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر   . 
والتنكير : اسم للإنكار وهو عد الشيء منكرا ، أي مكروها ، واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية . 
والمعنى : فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره ، أي كان عقابا عظيما على وفق إنكارنا تكذيبهم . 
و " نكير " بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم ، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها . وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه بالسكون .