صفحة جزء
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون

اعتراض بين جملة ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم إلى آخرها ، وجملة ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل الآية ، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر ، لمناسبة الحث على القتال ، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العدة والمئونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلا في سبيل الله : بإعطاء العدة لمن لا عدة له ، والإنفاق على المعسرين من الجيش ، وفيها تبيين لمضمون جملة واعلموا أن الله سميع عليم فكانت ذات ثلاثة أغراض .

و ( القرض ) إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله ، ويطلق مجازا على البذل لأجل الجزاء ، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاء الثواب ، ففعل يقرض مستعمل في حقيقته ومجازه .

والاستفهام في قوله من ذا الذي يقرض الله مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأن المستفهم لا يدري من هو أهل هذا الخير والجدير به ، قال طرفة :


إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتـبـلـد

و ( ذا ) بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملا في معناه كما تقول ، وقد رأيت شخصا لا تعرفه : ( من ذا ) فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال ( ذا ) بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يتصور المتكلم في ذهنه شخصا موهوما مجهولا صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه ، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعل بعد اسم الإشارة ، قال النحاة كلهم بصريهم وكوفيهم : بأن ( ذا ) مع الاستفهام تتحول إلى اسم موصول مبهم غير معهود ، فعدوه اسم موصول ، وبوب سيبويه في كتابه فقال " باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي [ ص: 482 ] وليس يكون كالذي إلا مع ( ما ) و ( من ) في الاستفهام فيكون ( ذا ) بمنزلة الذي ويكون " ما " - أي أو من - حرف الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما - أي أو من - بمنزلة اسم واحد " ومثله بقوله تعالى ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا وبقية أسماء الإشارة مثل اسم ( ذا ) عند الكوفيين ، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على ( ذا ) وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول ; فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول ، كما في هذه الآية ، ولا معنى لوقوع اسمي موصول صلتهما واحدة ، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مفاد اسم الموصول ، فيكون ما بعده من فعل أو وصف في معنى صلة الموصول ، وإنما دونوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال " ذا " في الاستفهام من المجاز ، فكان تدوينها قليل الجدوى .

والوجه أن ( ذا ) في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية ، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال . فوزان قوله تعالى ماذا أنزل ربكم وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته :

نجوت وهذا تحملين طليق والإقراض : فعل القرض . والقرض : السلف ، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه ، واستعمل هنا مجازا في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيدا في تحقيق حصول التعويض والجزاء . ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضى الله به إلا إذا كان مبرأ عن شوائب الرياء والأذى ، كما قال النابغة :

    ليست بذات عقارب
وقيل : القرض هنا على حقيقته وهو السلف ، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يقرض الناس طمعا في الثواب كأنه أقرض الله تعالى ; لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي : إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه . الحديث . وقد رووا : أن ثواب الصدقة عشر أمثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله . وقرأ الجمهور فيضاعفه بألف بعد الضاد ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب . بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين .

ورفع ( فيضاعفه ) في قراءة الجمهور ، على العطف على يقرض ليدخل في حيز [ ص: 483 ] التحضيض معاقبا للإقراض في الحصول ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب : بنصب الفاء على جواب التحضيض ، والمعنى على كلتا القراءتين واحد .

وقوله والله يقبض ويبصط أصل القبض : الشد والتماسك ، وأصل البسط : ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال ، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان : منها القبض بمعنى الأخذ فرهان مقبوضة وبمعنى الشح ويقبضون أيديهم ومنها البسط بمعنى البذل الله يبسط الرزق لمن يشاء وبمعنى السخاء بل يداه مبسوطتان ومن أسمائه تعالى : القابض ، الباسط ، بمعنى المانع ، المعطي ، وقرأ الجمهور : ويبسط بالسين ، وقرأه نافع ، والبزي عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وروح عن يعقوب ، بالصاد وهو لغة .

يحتمل أن المراد هنا : يقبض العطايا والصدقات ، ويبسط الجزاء والثواب ، ويحتمل أن المراد يقبض نفوسا عن الخير ، ويبسط نفوسا للخير ، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على المنفق في سبيل الله ، والتقتير على البخيل . وفي الحديث ، اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا ، وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع : أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد . أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط ، والأصل هو السين ، ولكنها قلبت صادا في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها ، ومخرجها بعيد من مخرج السين ; لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد .

وقوله وإليه ترجعون خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا ، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير .

روي أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أو أن الله يريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك فناوله يده فقال : فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كم من عذق رداح ودار فساح في الجنة لأبي الدحداح .

التالي السابق


الخدمات العلمية