صفحة جزء
وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون فيجوز أن يكون عطفا على قوله إلا عباد الله المخلصين على أول الوجهين [ ص: 191 ] في المعنى بعباد الله المخلصين فيكون عطفا على معنى الاستثناء المنقطع ؛ لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى ، وعطف عليه أنهم يتبرءون من ذلك فالواو عاطفة قولا محذوفا يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل . والتقدير : ويقولون ما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون ، وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله " إلا له مقام معلوم " وقوله " الصافون . . . المسبحون " : الشائع وصف الملائكة بأمثالها في القرآن ، كما تقدم في أول السورة وصفهم بالصافات ، ووصفهم بالتسبيح كثير كقوله والملائكة يسبحون بحمد ربهم ، وذكر مقاماتهم في قوله تعالى ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وقوله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى .

وفي أحاديث كثيرة مثلا حديث الإسراء : أن جبريل وجد في كل سماء ملكا يستأذنه جبريل أن يدخل تلك السماء ، ويسأله الملك : من أنت ؟ ومن معك ؟ وهل أرسل إليه ؟ فإذا قال : نعم ، فتح له .

وعن مقاتل أن قوله " وما منا إلا له مقام معلوم " إلى " المسبحون " نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى فتأخر جبريل فقال له النبيء : أهنا تفارقني فقال : لا أستطيع أن أتقدم عن مكاني ، وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة " وما منا إلا له مقام معلوم " الآيتين .

ويجوز أن يكون هذا مما أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين عطفا على التفريع الذي في قوله " فإنكم وما تعبدون " إلى آخره ، ويتصل الكلام بقوله فاستفتهم ألربك البنات إلى هنا .

والمعنى : ما أنتم بفاتنيننا فتنة جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم : الملائكة بنات الله والجن أصهار الله فما منا إلا له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقية لله والعبودية له .

والمنفي ب " ما " محذوف دل عليه وصفه بقوله " منا " ، والتقدير : وما أحد منا ، كما في قول سحيم بن وثيل :


أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني

[ ص: 192 ] التقدير : ابن رجل جلا .

والخبر هو قوله " إلا له مقام معلوم " ، والتقدير : ما أحد منا إلا كائن له مقام معلوم .

والمقام : أصله مكان القيام . ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء ، كما حكي في قول نوح إن كان كبر عليكم مقامي أي عملي .

والمعلوم : المعين المضبوط ، وأطلق عليه وصف " معلوم " لأن الشيء المعين المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمله علمه .

والمعنى : ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه فيه الوساوس ، فلا أن تزلونا عن عبادة ربنا . فالمقام هو صفة العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة عقب قوله فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين ، أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام البنوة لله تعالى ، ولا نشبه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لجلاله كقوله وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم .

فقوله وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون أي وإنا - معشر المسلمين - الصافون أي : الواقفون لعبادة الله صفوفا بالصلاة . ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبها بنظام الملائكة . قال النبيء صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، والمراد بالمسبحين المنزهون لله تعالى عن أن يتخذ ولدا أو يكون خلق صهرا له أو صاحبة خلافا لشرككم إذ عبادتكم مكاء وتصدية ، وخلافا لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهارا . وحذف متعلق " الصافون . . المسبحون " لدلالة قوله ما أنتم عليه بفاتنين عليه ، أي : الصافون لعبادته المسبحون له ، فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشئون الله تعالى .

وتعريف جزأي الجملة ، وضمير الفصل من قوله " لنحن " يفيدان قصرا مؤكدا فهو قصر قلب ، أي دون ما وصفتموه به من البنوة لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية