صفحة جزء
وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق الانطلاق حقيقته : الانصراف والمشي ، ويستعمل استعمال أفعال الشروع لأن الشارع ينطلق إليه ، ونظيره في ذلك : ذهب بفعل كذا ، كما في قول النبهاني :


فإن كنت سيدنا سدتنا وإن كنت للخال فاذهب فخل

[ ص: 211 ] وكذلك قام في قوله تعالى " إذ قاموا فقالوا " في سورة الكهف .

وقيل : إن الانطلاق هنا على حقيقته ، أي وانصرف الملأ منهم عن مجلس أبي طالب .

والملأ : سادة القوم . قال ابن عطية : قائل ذلك عقبة بن أبي معيط . وقال غير ابن عطية : إن من القائلين أبا جهل ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث .

و ( أن ) تفسيرية لأن الانطلاق إن كان مجازا فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان فيه معنى القول دون حروفه فاحتاج إلى تفسير بكلام مقول ، وإن كان الانطلاق على حقيقته فقد تضمن انطلاقهم عقب التقاول بينهم بكلامهم الباطل " هذا ساحر " إلى قوله " عجاب " يقتضي أنهم انطلقوا متحاورين في ماذا يصنعون . ولما أسند الانطلاق إلى الملأ منهم على أنهم ما كانوا لينطلقوا إلا لتدبير في ماذا يصنعون فكان ذلك مقتضيا تحاورا وتقاولا ، احتيج إلى تفسير بجملة أن امشوا واصبروا على آلهتكم إلخ .

والأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة ، أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة ، واشتغلوا بالثبات على آلهتكم . ويجوز أن يكون مجازا في الاستمرار على دينهم كما يقال : كما سار الكرام ، أي اعمل كما عملوا ، ومنه سميت الأخلاق والأعمال المعتادة سيرة .

والصبر : الثبات والملازمة ، يقال : صبر الدابة إذا ربطها ، ومنه سمي الثبات عند حلول الضر صبرا لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع ، ونظير هذه الآية قوله تعالى إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها .

وحرف ( على ) يدل على تضمين " اصبروا " معنى : اعكفوا واثبتوا ، فحرف ( على ) هنا للاستعلاء المجازي وهو التمكن ، مثل أولئك على هدى من ربهم ، وليس هو حرف ( على ) المتعارف تعدية فعل الصبر به في نحو قوله اصبر على ما يقولون فإن ذلك بمعنى ( مع ) ، ولذلك يخلفه اللام في مثل ذلك الموقع نحو قوله تعالى فاصبر لحكم ربك ، ولا بد هنا من تقدير مضاف ، أي على عبادة [ ص: 212 ] آلهتكم ، فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازا فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان .

وجملة إن هذا لشيء يراد تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم بأنها شيء أراده لغرض ، أي ليس صادقا ولكنه مصنوع مراد منه مقصد كما يقال : هذا أمر دبر بليل ، فالإشارة ب " هذا " إلى ما كانوا يسمعونه في المجلس من دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم إياهم أن يقولوا : لا إله إلا الله .

وقوله : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة من كلام الملأ . والإشارة إلى ما أشير إليه بقولهم : إن هذا لشيء يراد ، أي هذا القول وهو جعل الآلهة إلها واحدا .

والجملة مستأنفة أو مبينة لجملة إن هذا لشيء يراد لأن عدم سماع مثله يبين أنه شيء مصطنع مبتدع .

وإعادة اسم الإشارة من وضع الظاهر موضع المضمر لقصد زيادة تمييزه . وفي قوله " بهذا " تقدير مضاف ، أي بمثل هذا الذي يقوله .

ونفي السماع هنا خبر مستعمل كناية عن الاستبعاد والاتهام بالكذب .

والملة : الدين ، قال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم في سورة البقرة ، وقال إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوبفي سورة يوسف .

والآخرة : تأنيث الآخر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى ثم الله ينشئ النشأة الآخرة .

والمجرور من قوله في الملة الآخرة يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من اسم الإشارة بيانا للمقصود من الإشارة متعلقا بفعل " سمعنا " . والمعنى : ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتد به . ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد ب " الملة الآخرة " دين النصارى ، وهو عن ابن عباس وأصحابه ، وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإله بأن دين النصارى الذي قبل الإسلام [ ص: 213 ] أثبت تعدد الآلهة ، ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة .

ويجوز أن يريدوا ب " الملة الآخرة " الملة التي هم عليها ويكون إشارة إلى قول ملأ قريش لأبي طالب في حين احتضاره حين قال له النبيء صلى الله عليه وسلم يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله . فقالوا له جميعا : أترغب عن ملة عبد المطلب . فقولهم " في الملة الآخرة " كناية عن استمرار انتفاء هذا إلى الزمن الأخير فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى .

وجملة إن هذا إلا اختلاق مبينة لجملة " ما سمعنا بهذا " وهذا هو المتحصل من كلامهم المبدوء ب امشوا واصبروا على آلهتكم فهذه الجملة كالفذلكة لكلامهم .

والاختلاق : الكذب المخترع الذي لا شبهة لقائله .

التالي السابق


الخدمات العلمية