صفحة جزء
قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إعادة الأمر بالقول هنا مستأنفا . والعدول عن الإتيان بحرف يعطف المقول أعني هو نبأ عظيم على المقول السابق ؛ أعني : أنا منذر ، عدول يشعر بالاهتمام بمقول هنا كي لا يؤتى به تابعا لمقول آخر فيضعف تصدي السامعين لوعيه .

وجملة قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالا من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة [ ص: 296 ] خلق آدم وشقاء الشيطان ، فيكون ضمير " هو " ضمير شأن يفسره ما بعده وما يبين به ما بعده من قوله إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقا لتلقيها فيكون المراد بالنبأ نبأ خلق آدم وما جرى بعده ، ويكون ضمير " يختصمون " عائدا إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة . ويراد بالاختصام : الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلغ إليه من الملائكة أمر الله بالسجود لآدم ، فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعد منهم قبل أن يطرد من السماء .

ويجوز أن تكون جملة قل هو نبأ عظيم إلخ ؛ تذييلا للذي سبق من قوله وإن للمتقين لحسن مآب إلى هنا ، تذييلا يشعر بالتنويه به وبطلب الإقبال على التدبر فيه والاعتبار به .

وعليه يكون ضمير " هو " ضميرا عائدا إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أتي لتعريفه بضمير المفرد .

والمراد بالنبأ : خبر الحشر وما أعد فيه للمتقين من حسن مآب ، وللطاغين من شر مآب ، ومن سوء صحبة بعضهم لبعض ، وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب ، وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يعدونهم من الأشرار .

ووصف النبأ بـ عظيم تهويلا على نحو قوله تعالى عم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله : " فساد كبير " فتم الكلام عند قوله تعالى " أنتم عنه معرضون " .

فتكون جملة ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إلى قوله " نذير مبين " استئنافا للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولولا أنه وحي لما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن .

[ ص: 297 ] وتكون جملة إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا إلى آخره استئنافا ابتدائيا .

وعلى هذا فضمير يختصمون عائد إلى أهل النار من قوله تخاصم أهل النار إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى .

والمعنى : ما كان لي من علم بعالم الغيب وما يجري فيه من الإخبار بما سيكون إذ يختصم أهل النار في النار يوم القيامة .

وعلى كلا التفسيرين فمعنى " أنتم عنه معرضون " : أنهم غافلون عن العلم به فقد أعلموا بالنبأ بمعناه الأول وسيعلمون قريبا بالنبأ بمعناه الثاني .

وجيء بالجملة الاسمية في قوله أنتم عنه معرضون لإفادة إثبات إعراضهم وتمكنه منهم ، فأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الأول فظاهر تمكنه من نفوسهم لأنه طالما أنذرهم بعذاب الآخرة ووصفه فلم يكترثوا بذلك ولا ارعووا عن كفرهم .

وأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الثاني ، فتأويل تمكنه من نفوسهم عدم استعدادهم للاعتبار بمغزاه من تحقق أن ما هم فيه هو وسوسة من الشيطان قصدا للشر بهم .

ولعل هذه الآية من هذه السورة هي أول ما نزل على النبيء - صلى الله عليه وسلم - من ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس من السجود ، فإن هذه السورة في ترتيب نزول سور القرآن لا يوجد ذكر قصة آدم في سورة نزلت قبلها .

فذلك وجه التوطئة للقصة بأساليب العناية والاهتمام مما خلا غيرها عن مثله وبأنها نبأ كانوا معرضين عنه .

وأيا ما كان فقوله أنتم عنه معرضون توبيخ لهم وتحميق .

وجملة ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون اعتراض إبلاغ في التوبيخ على الإعراض عن النبأ العظيم ، وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحى به من الله وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - سبيل إلى علمه لولا وحي الله إليه به . وذكر فعل كان دال على أن المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما [ ص: 298 ] قال تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون وقوله وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين .

والباء في قوله " بالملأ الأعلى " على كلا المعنيين للنبأ ، لتعدية علم لتضمينه معنى الإحاطة ، وهو استعمال شائع في تعدية العلم . ومنه ما في حديث سؤال الملكين في الصحيح فيقال له : ما علمك بهذا الرجل .

ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية ، أي : ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى ، أي : ما كنت حاضرا في الملأ الأعلى ؛ فهي كالباء في قوله وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر .

والملأ : الجماعة ذات الشأن ، ووصفه بـ الأعلى لأن المراد ملأ السماوات وهم الملائكة ولهم علو حقيقي وعلو مجازي بمعنى الشرف .

و " إذ يختصمون " ظرف متعلق بفعل ما كان لي من علم أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين ، أي : في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء .

والتعبير بالمضارع في موضع المضي لقصد استحضار الحالة ، أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى ، أي : ملائكة النار أو ملائكة المحشر ، والمضارع على أصله من الاستقبال .

والاختصام : افتعال من خصمه ، إذا نازعه وخالفه ؛ فهو مبالغة في " خصم " .

وجملة إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين مبينة لجملة ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أي : ما علمت بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحى الله إلي ذلك لأكون نذيرا مبينا .

وقد ركبت هذه الجملة من طريقين للقصر : أحدهما طريق النفي والاستثناء ، والآخر طريق أنما المفتوحة الهمزة وهي أخت إنما المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر ، ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من [ ص: 299 ] ( أن ) المفتوحة الهمزة وما الكافة وليست ( أن ) المفتوحة الهمزة إلا ( إن ) المكسورة تغير كسرة همزتها إلى فتحة لتفيد معنى مصدريا مشربا بـ ( أن ) المصدرية إشرابا بديعا جعل شعاره فتح همزتها لتشابه ( أن ) المصدرية في فتح الهمزة وتشابه ( إن ) في تشديد النون ، وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية .

وتكون ( أنما ) مفتوحة الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام . والذي يقتضيه مقام الكلام هنا أن فتح همزة ( أنما ) لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها ( أنما ) ، والتقدير : إلا لأنما أنا نذير ، أي : إلا لعلة الإنذار ، أي : ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به ، أي : ليس لمجرد القصص .

فالاستثناء من علل ، وقد نزل فعل ( يوحى ) منزلة اللازم ، أي : ما يوحى إلي وحي فلا يقدر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي .

وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون المبينة بها جملة قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون إذ لا مناسبة لو جعل " إنما أنا نذير مبين " مستثنى من نائب فاعل الوحي بأن يقدر : إن يوحى إلي شيء إلا أنما أنا نذير مبين ، أي : ما يوحى إلي شيء إلا كوني نذيرا ، وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتضح رجحان تقدير العلة عليه .

فأفادت جملة إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإنذار وحصر صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة النذارة ، ويستلزم هذان الحصران حصرا ثالثا ، وهو أن إخبار القرآن وحيا من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا .

فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور : اثنان منها بصريح اللفظ ، والثالث بكناية الكلام ، وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك وهذه الحصور : اثنان منها إضافيان ، وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على صفة النذارة ، وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعبا [ ص: 300 ] واعتقادهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساحر أو مجنون . وعلم من هذا أن ذكر نبأ خلق آدم قصد به الإنذار من كيد الشيطان .

وقرأ أبو جعفر " إلا إنما " بكسر همزة " إنما " على تقدير القول ، أي : ما يوحى إلا هذا الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية