صفحة جزء
" قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " أي : قال الله تعالى تفريعا ، وهذا التفريع نظير التفريع في قوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين .

وقوبل تأكيد عزمه الذي دل عليه قوله " فبعزتك " بتأكيد مثله ، وهو لفظ الحق الدال على أن ما بعده حق ثابت لا يتخلف ، ولم يزد في تأكيد الخبر على لفظ الحق تذكيرا بأن وعد الله تعالى حق لا يحتاج إلى قسم عليه ترفعا من جلال الله عن أن يقابل كلام الشيطان بقسم مثله . ولذلك زاد هذا المعنى تقريرا بالجملة المعترضة وهي " والحق أقول " الذي هو بمعنى : لا أقول إلا الحق ، ولا حاجة إلى القسم .

وقرأ الجمهور " فالحق " بالنصب ؛ وانتصابه على المفعولية المطلقة بدلا عن فعل من لفظه محذوف ؛ تقديره : أحق ، أي : أوجب وأحقق . وأصله التنكير ، فتعريفه باللام تعريف الجنس كالتعريف في :

أرسلها العراك

، فهو في حكم النكرة [ ص: 307 ] وإنما تعريفه حلية لفظية إشارة إلى ما يعرفه السامع من أن الحق ما هو وتقدم بيانه في أول الفاتحة .

وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أنه لما تعرف باللام غلبت عليه الاسمية فتنوسي كونه نائبا عن الفعل . وهذا الرفع إما على الابتداء ، أي : فالحق قولي ، أو فالحق لأملأن جهنم إلخ ؛ على أن تكون جملة القسم قائمة مقام الخبر ، وإما على الخبرية ، أي : فقولي الحق ؛ وتكون جملة " لأملأن جهنم " مفسر القول المحذوف ، ولا خلاف في نصب الحق من قوله " والحق أقول " وتقدم تفصيل ذلك في أول سورة الفاتحة .

وجملة لأملأن جهنم منك إلخ ؛ مبينة لجملة " فالحق " وهي مؤكدة بلام القسم والنون .

وتقديم المفعول في " والحق أقول " للاختصاص ، أي : ولا أقول إلا الحق .

و ( من ) في قوله منك وممن تبعك بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقدير معناها . وتدخل على تمييز ( كم ) في نحو كم أهلكنا من قبلهم من قرن وهي هنا بيان لما دل عليه " لأملأن " من مقدار مبهم فبين بآية منك وممن تبعك .

ولما كان شأن مدخول ( من ) البيانية أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس ، أي : من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس ملئا لجهنم ، وإذ قد عطف عليه وممن تبعك منهم أي : من تبعك من الذين أغويتهم من بني آدم ، فلا جائز أن يبقى من عدا هذين من الشياطين ؛ والجنة غير ملء لجهنم .

و ( أجمعين ) توكيد لضمير ( منك ) ولـ ( من ) في قوله " وممن تبعك " .

واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه ، وما جرى في إرادة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج [ ص: 308 ] المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكورة فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعد مجازاة الله تعالى الشيطان عليه تنازلا من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى .

وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوال التي ألقاها الله عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية