صفحة جزء
لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار موقع هذه الآية موقع الاحتجاج على أن المشركين كاذبون وكفارون في اتخاذهم أولياء من دون الله ، وفي قولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله وأن الله حرمهم الهدى وذلك ما تضمنه قوله قبله إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فقصد إبطال شركهم بإبطال أقواه وهو عدهم في جملة شركائهم شركاء زعموا لهم بنوة لله تعالى ، حيث قالوا " اتخذ الله ولدا " فإن المشركين يزعمون اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى .

قال في الكشاف هنالك كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام يعني هذه الثلاثة بنات الله ، وذكر البغوي عن الكلبي كان المشركون بمكة يقولون :

[ ص: 325 ] الأصنام والملائكة بنات الله فخص الاعتقاد بأهل مكة ، والظاهر أن ذلك لم يقولوه في غير اللات والعزى ومناة ، لأن أسماءها مؤنثة ، وإلا فإن في أسماء كثير من أسماء أصنامهم ما هو مذكر نحو ذي الخلصة ، وذكر في الكشاف عند ذكر البسملة أنهم كانوا يقولون عند الشروع في أعمالهم : باسم اللات ، باسم العزى .

فالمقصود من هذه الآية إبطال إلهية أصنام المشركين على طريقة المذهب الكلامي .

واعلم أن هذه الآية والآيات بعدها اشتملت على حجج انفراد الله .

ومعنى الآية : لو كان الله متخذا ولدا لاختار من مخلوقاته ما يشاء اختياره ، أي : لاختار ما هو أجدر بالاختيار ولا يختار لبنوته حجارة كما زعمتم لأن شأن الاختيار أن يتعلق بالأحسن من الأشياء المختار منها فبطل أن تكون اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى ، وإذا بطل ذلك عنها بطل عن سائر الأصنام بحكم المساواة أو الأحرى ، فتكون ( لو ) هنا هي الملقبة ( لو ) الصهيبية ، أي : التي شرطها مفروض فرضا على أقصى احتمال وهي التي يمثلون لها بالمثل المشهور : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، فكان هذا إبطالا لما تضمنه قوله والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلى قوله ( كفار ) .

وليس هو إبطالا لمقالة بعض العرب : إن الملائكة بنات الله ، لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم ، ولا إبطالا لبنوة المسيح عند النصارى لأن ذلك غير معتقد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به ، وليس المقصود محاجة النصارى ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجة النصارى .

واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولد ، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد : التبني ؛ لأن إبطال التبني بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى .

وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه ، أي : لو كان لأحد من الله نسبة بنوة [ ص: 326 ] لكانت تلك النسبة التبني لا غير . إذ لا تتعقل بنوة الله غير التبني ولو كان الله متبنيا لاختار ما هو الأليق بالتبني من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله . وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزى ومناة بطريق الأولى واتفاق الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين : طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى ، وذكر دليل إبطال التبني لما لا يليق أن يتبناه الحكيم .

وهذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها ، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط ( لو ) وجوابها ، وسكت بعضهم عن تفسيرها . فوقع في الكشاف ما يفيد أن المقصود نفي زعم المشركين بنوة الملائكة وجعل جواب 99 ( لو ) محذوفا وجعل المذكور في موضع الجواب إرشادا إلى الاعتقاد الصحيح في الملائكة فقال " يعني لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ، ولم يصح لكونه ( أي ذلك الاتخاذ ) محالا ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده وقد فعل ذلك بالملائكة فغركم اختصاص إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم بحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأغراض " .

فجعل ما هو في الظاهر جواب ( لو ) مفيدا معنى الاستدراك الذي يعقب المقدم والتالي غالبا ، فلذلك فسره بمرادفه وهو الاستثناء الذي هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده .

وللتفتزاني بحث يقتضي عدم استقامة تقرير الكشاف لدليل شرط ( لو ) وجوابه ، واستظهر أن ( لو ) صهيبية تبعا لتقرير ذكره صاحب الكشاف . وبعد فإن كلام صاحب الكشاف يجعل هذه الآية منقطعة عن الآيات التي قبلها ، فيجعلها بمنزلة غرض مستأنف مع أن نظم الآية نظم الاحتجاج لا نظم الإفادة ، فكان محمل الكشاف فيها بعيدا . ومع قطع النظر عن هذا فإن في تقرير الملازمة في الاستدلال خفاء وتعسفا كما أشار إليه الشقار في كتابه " التقريب مختصر الكشاف " .

[ ص: 327 ] وقال ابن عطية " معنى اتخاذ الولد اتخاذ التشريف والتبني وعلى هذا يستقيم قوله ( لاصطفى ) وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد ( يعني اتخاذ النسل ) فمستحيل أن يتوهم في جهة الله ولا يستقيم عليه قوله ( لاصطفى ) ، ومما يدل على أن معنى أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله " مما يخلق " أي : من محدثاته اهـ وتبعه عليه الفخر .

وبنى عليه صاحب التقريب فقال عقب تعقب كلام الكشاف " والأولى ما قيل : لو أراد أن يتخذ ولدا كما زعمتم لاختار الأفضل ( أي الذكور ) لا الأنقص وهن الإناث " ، وقال التفتزاني في شرح الكشاف : هذا معنى الآية بحسب الظاهر ، وذكر أن صاحب الكشاف لم يسلكه للوجه الذي ذكره التفتزاني هناك .

والذي سلكه ابن عطية وإن كان أقرب وأوضح من مسلك الكشاف في تقرير الدليل لكنه يشاركه في أنه لا يصل الآية بالآيات التي قبلها وينبغي أن لا تقطع بينها الأواصر ، وكم ترك الأول للآخر .

وجملة " سبحانه " تنزيه له عما نسبوه إليه من الشركاء بعد أن أبطله بالدليل الامتناعي عودا إلى خطاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الذي فارقه من قوله فاعبد الله مخلصا له الدين .

وجملة هو الله الواحد القهار دليل للتنزيه المستفاد من سبحانه . فجملة " هو الله " تمهيد للوصفين ، وذكر اسمه العلم لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به فلذلك لم يقل : هو الواحد القهار كما قال بعد ألا هو العزيز الغفار .

وإثبات الوحدانية له يبطل الشريك في الإلهية على تفاوت مراتبه ، وإثبات " القهار " يبطل ما زعموه من أن أولياءهم تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم .

والقهر : الغلبة ، أي : هو شديد الغلبة لكل شيء لا يغلبه شيء ولا يصرفه عن إرادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية