صفحة جزء
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا .

توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى ، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذبوا يوسف لما جاءهم بالبينات ، فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم .

وتأكيد الخبر ب ( قد ) ولام القسم لتحقيقه لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به .

فالمجيء في قوله جاءكم مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة ، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببينات . ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارنا دعوة إلى شرع لأنه لما أظهر البينات وتحققوا مكانته كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريق الهدى والنجاة ، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه ، لحكمة لعلها هي انتظار الوقت والحال المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه السلام .

والبينات : الدلائل البينة المظهرة أنه مصطفى من الله للإرشاد إلى الخير ، فكان على كل عاقل أن يتبع خطاه ويترسم آثاره ويسأله عما وراء هذا العالم [ ص: 139 ] المادي ، بناء على أن معرفة الوحدانية واجبة في أزمان الفترات : إما بالعقل ، أو بما تواتر بين البشر من تعاليم الرسل السابقين على الخلاف بين المتكلمين .

والبينات : إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرؤى ، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهد أهلها حتى قال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي ، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالا يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم ، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم ، فقال له الملك إنك اليوم لدينا مكين أمين .

ولم يخطر ببالهم أن يسترشدوا به في سلوكهم الديني .

فإن قلت : إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلماذا لم يدعهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سأل من الملك اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم .

قلت : لأن الله لم يأمره بالدعوة للإرشاد إلا إذا سئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفا ، فأقامه الله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغير للمنكر ، و " الله أعلم حيث يجعل رسالاته " ، فلما أقامه الله كذلك وعلم يوسف من قول الملك إنك اليوم لدينا مكين أمين أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله ، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك . وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم ، فمعنى فما زلتم في شك مما جاءكم به الإنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم ، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين . فهم من أمره في حالة شك ، أي كان حاصل ما بلغوا إليه في شأنه أنهم في شك مما يكشف لهم عن واجبهم نحوه فانقضت مدة حياة يوسف بينهم وهم في شك من الأمر .

[ ص: 140 ] فالملام متوجه عليهم لتقصيرهم في طلب ما ينجيهم بعد الموت قال تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها الآيتين .

و ( حتى ) للغاية وغايتها هو مضمون الجملة التي بعدها وهي جملة ( إذا هلك ) ، وإذا هنا اسم لزمان المضي مجرورة ب ( حتى ) وليست بظرف ، أي حتى زمن هلاك يوسف قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولا ، أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف : لا يبعث الله في المستقبل أبدا رسولا بعد يوسف ، يعنون : أنا كنا مترددين في الإيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجيء من يدعي الرسالة عن الله من بعده ، وهذا قول جرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندما على ما فاتهم من خير كانوا يدعونهم إليه .

وفيه ضرب من المبالغة في الكمال في عصره كما يقال : خاتمة المحققين ، وبقية الصالحين ، ومن لا يأتي الزمان بمثله ، وحاصله أنهم كانوا في شك من بعثة رسول واحد ، وأنهم أيقنوا أن من يدعي الرسالة بعده كاذب فلذلك كذبوا موسى .

ومقالتهم هذه لا تقتضي أنهم كانوا يؤمنون بأنه رسول ضرورة أنهم كانوا في شك من ذلك وإنما أرادوا بها قطع هذا الاحتمال في المستقبل وكشف الشك عن نفوسهم ، وظاهر هذه الآية أن يوسف كان رسولا لظاهر قوله قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أن رسولا حال من ضمير ( من بعده ) ، والوجه أن يكون قوله ( رسولا ) مفعول ( يبعث ) وأنه لا يقتضي وصف يوسف به فإنه لم يرد في الأخبار عده في الرسل ولا أنه دعا إلى دين في مصر وكيف والله يقول ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ولا شك في أنه نبيء إذا وجد مساغا للإرشاد أظهره كقوله يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان وقوله إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء .

[ ص: 141 ] وعدي فعل ( جاءكم ) إلى ضمير المخاطبين . وأسند ( فما زلتم ) و ( قلتم ) إلى ضميرهم أيضا ، وهو ما كانوا موجودين حينئذ قصدا لحمل تبعة أسلافهم عليهم وتسجيلا عليهم بأن التكذيب للناصحين واضطراب عقولهم في الانتفاع بدلائل الصدق قد ورثوه عن أسلافهم في جبلتهم وتقرر في نفوسهم فانتقاله إليهم جيلا بعد جيل كما تقدم في خطاب بني إسرائيل في سورة البقرة وإذ نجيناكم من آل فرعون ونحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية