الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون   . 
انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجلهم من نظام العوالم العليا والسفلى ، وبما منحهم من الإيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى ، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإبل لمنافعهم الجمة خاصة وعامة ، فالجملة استئناف سادس . 
والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره . 
والأنعام : الإبل ، والغنم ، والمعز ، والبقر . والمراد هنا : الإبل خاصة لقوله 
ولتبلغوا عليها حاجة وقوله 
وعليها وعلى الفلك تحملون وكانت الإبل غالب مكاسبهم . 
والجعل : الوضع والتمكين والتهيئة ، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم . 
وأدمج في الامتنان 
استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله 
ويريكم آياته أي في ذلك كله .  
[ ص: 215 ] واللام في لكم لام التعليل ، أي لأجلكم وهو امتنان مجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكروها وعدوها . 
ثم فصل ذلك الإجمال بعض التفصيل بذكر المهم من النعم التي في الإبل بقوله 
لتركبوا منها إلى تحملون . 
فاللام في 
لتركبوا منها لام كي وهي متعلقة ب جعل أي لركوبكم . 
ومن في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه من أي بعضا منها ، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل . ويتعلق حرف من ب تركبوا ، وتعلق من التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا 
التفتزاني  إلى القول بأن من في مثله اسم بمعنى بعض ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى 
ومن الناس من يقول آمنا بالله في سورة البقرة . 
وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تعب الرجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله 
ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم   . 
وجملة ومنها تأكلون في موضع الحال من الأنعام ، أو عطف على المعنى من جملة لتركبوا منها لأنها في قوة أن يقال : تركبون منها ، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في 
جعل لكم الأنعام ، وعلى الاعتبارين فهي في حيز ما دخلت عليه لام كي فمعناها : ولتأكلوا منها . 
وجملة 
ولكم فيها منافع عطف على جملة 
ومنها تأكلون ، والمعنى أيضا على اعتبار التعليل كأنه قيل : ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غير أسلوب التعليل تفننا في الكلام وتنشيطا للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكرارات كثيرة . 
والمنافع : جمع منفعة ، وهي مفعلة من النفع ، وهي : الشيء الذي ينتفع به ، أي يستصلح به . 
فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في   
[ ص: 216 ] قوله 
ومنها تأكلون مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضها في الديات والمهور ، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قبابا وغيرها وبالجلوس عليها ، وكذلك الانتفاع بجمال مرآها في العيون في المسرح والمراح ، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله 
لتركبوا منها ، فذكر المنافع بعد لتركبوا منها تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى 
ولي فيها مآرب أخرى بعد قوله 
هي عصاي أتوكأ عليها ، فذكر هنا الشائع المطروق عندهم ، ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها ، ثم عاد إلى عموم المنافع ، ثم خص من المنافع الأسفار فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام . 
ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف في دون من لأن في للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يعد كالشيء المحوي في الأنعام ، كقول 
سبرة بن عمرو الفقعسي  من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في دية قريب : 
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ونشرب في أثمانها ونقامر 
وأنبأ فعل لتبلغوا أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها . 
والحاجة : النية والعزيمة . 
والصدور أطلق على العقول اتباعا للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول . 
وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله 
ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم فقال 
وعليها وعلى الفلك تحملون ، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام ، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله 
وعلى الفلك تحملون ، وأما قوله وعليها فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريرا للمنة ، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإبل كقوله تعالى 
وتحمل أثقالكم فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليبا .  
[ ص: 217 ] ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركب الله في الإنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال ، كما تقدم في سورة البقرة عند قوله تعالى 
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس لآيات ، وبينا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضا قال 
النابغة  يصف 
الفرات    : 
يظل من خوفه الملاح معتصما     بالخيزرانة بعد الأين والنجد 
والجمع بين السفر بالإبل والسفر بالفلك جمع لطيف ، فإن الإبل سفائن البر ، وقديما سموها بذلك ، قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  في تفسير سورة المؤمنين . 
وإنما قال وعلى الفلك ولم يقل : وفي الفلك ، كما قال 
فإذا ركبوا في الفلك للمزاوجة والمشاكلة مع ( وعليها ) ، وإنما أعيد حرف على في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر وعليها كالتوطئة لها فجاءت على مثالها . 
وتقديم المجرورات في قوله 
ومنها تأكلون وقوله 
وعليها وعلى الفلك للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق . 
وتقديم لكم على الأنعام مع أن المفعول أشد اتصالا بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعم عليهم . 
وأما تقديم المجرورين في قوله 
ولكم فيها منافع فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله 
الله الذي جعل لكم الأنعام   .