وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون   . 
عطف ( وقالوا ) على ( 
فأعرض   ) ، أو حال من ( 
أكثرهم   ) ، أو عطف على ( لا يسمعون ) ، أو حال من ضميره ، والمعنى : أنهم أعرضوا مصرحين بقلة الاكتراث وبالانتصاب للجفاء والعداء . 
وهذا تفصيل للإعراض عما وصف به القرآن من الصفات التي شأنها أن تقربهم إلى تلقيه لا أن يبعدوا ويعرضوا ، وقد جاء بالتفصيل بأقوالهم التي حرمتهم من الانتفاع بالقرآن واحدا واحدا كما ستعلمه . 
والمراد بالقلوب : العقول ، حكي بمصطلح كلامهم قولهم إذ يطلقون القلب على العقل . 
والأكنة : جمع كنان مثل غطاء وأغطية وزنا ومعنى ، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل ، وشبهت القلوب بالأشياء المغطاة على طريقة الاستعارة المكنية . ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته . 
وما يدعوهم إليه يعم كل ما دعاهم إليه من المدلولات وأدلتها ، ومنها 
دلالة معجزة القرآن وما تتضمنه من دلالة أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله تعالى 
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك   .  
[ ص: 234 ] وجعلت القلوب في أكنة لإفادة حرف في معنى إحاطة الظرف بالمظروف . وكذلك جعل الوقر في القلوب لإفادة تغلغله في إدراكهم . 
ومن في قوله 
مما تدعونا إليه بمعنى عن مثل قوله تعالى 
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله وقوله قد كنا في غفلة من هذا ، والمعنى : قلوبنا في أكنة فهي بعيدة عما تدعونا إليه لا ينفذ إليها . 
والوقر بفتح الواو : ثقل السمع وهو الصمم ، وكأن اللغة أخذته من الوقر بكسر الواو ، وهو الحمل لأنه يثقل الدابة عن التحرك ، فأطلقوه على عدم تحرك السمع عند قرع الصوت المسموع ، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة ففتحوا له الواو تفرقة بين الحقيقة والمجاز ، كما فرقوا بين العض الحقيقي وعظ الدهر بأن صيروا ضاده ظاء . 
وقد تقدم ذكر الأكنة والوقر في قوله 
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا في الأنعام وفي سورة الإسراء . 
والحجاب : الساتر للمرئي من حائط أو ثوب . أطلقوا اسم الحجاب على ما يمنع نفوسهم أن يأخذوا بالدين الذي جاء به النبيء - صلى الله عليه وسلم - من كراهية دينه وتجافي تقلده بجامع أن الحجاب يحول بين الرائي والمرئي فلا ينظر أحدهما الآخر ولا يصل إليه ، ومرادهم البراءة منه . 
مثل نبو قلوبهم عن تقبل الإسلام واعتقاده بحال ما هو في أكنة ، وعدم تأثر أسماعهم بدعوته بصم الآذان . وعدم التقارب بين ما هم عليه وما هو عليه بالحجاب الممدود بينه وبينهم فلا تلاقي ولا ترائي . 
وقد جمعوا بين الحالات الثلاث في التمثيل للمبالغة في أنهم لا يقبلون ما يدعوهم إليه . 
واجتلاب حرف من في قوله 
ومن بيننا وبينك حجاب لتقوية معنى الحجاب بين الطرفين وتمكن لازمه الذي هو بعد المسافة التي بين الطرفين لأن ( من ) هذه زائدة لتأكيد مضمون الجملة .  
[ ص: 235 ] وضمير ( 
بيننا   ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير ( 
أكثرهم   ) . 
وعطف ( 
وبينك   ) تأكيد لأن واو العطف مغنية عنه وأكثر استعمال بين أن يكون معطوفا عليه مثله كقوله تعالى 
قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين   . 
وقد جعل 
ابن مالك    " من " الداخلة على " قبل " و " بعد " زائدة فيكون " بين " مقيسا على " قبل " و " بعد " لأن الجميع ظروف . وهذا القول المحكي عنهم في القرآن بـ ( قالوا ) يحتمل أن يكون القرآن حكاه عنهم بالمعنى ، فجمع القرآن بإيجازه وبلاغته ما أطالوا به الجدال وأطنبوا في اللجاج ، ويحتمل أنه حكاه بلفظهم فيكون مما قاله أحد بلغائه في مجامعهم التي جمعت بينهم وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ظاهر ما في سيرة 
 nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق  ، وزعم أنهم قالوه استهزاء وأن الله حكاه في سورة الكهف . . 
ويحتمل أن يكونوا تلقفوه مما سمعوه في القرآن من وصف قلوبهم وسمعهم وتباعدهم كقوله 
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا في سورة الإسراء ، فإن سورة الإسراء معدودة في النزول قبل سورة فصلت . 
وكذلك قوله تعالى 
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا في سورة الإسراء أيضا ، فجمعوا ذلك وجادلوا به الرسول . فيكون ما في هذه الآية من البلاغة قد اقتبسوه من آيات أخرى . 
قيل : إن قائله 
أبو جهل  في مجمع من 
قريش  فلذلك أسند القول إليهم جميعا لأنهم مشائعون له . 
وقد جاء في حكاية أقوالهم ما فيه تفصيل ما يقابل ما ذكر قبله من صفات القرآن وهي 
تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ، فإن كونه تنزيلا من الرحمن الرحيم يستدعي تفهمه والانتفاع بما فيه ، فقوبل بقولهم 
قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وكونه فصلت آياته يستدعي تلقيها والاستماع إليها فقوبل بقولهم 
في آذاننا وقر ، أي فلا نسمع تفصيله ، وكونه قرآنا عربيا أشد إلزاما لهم بفهمه فقوبل ذلك بما يقطع هذه الحجة   
[ ص: 236 ] وهو 
من بيننا وبينك حجاب أي فلا يصل كلامه إليهم ولا يتطرق جانبهم ، فهذه تفاصيل إعراضهم عن صفات القرآن . 
وقولهم 
فاعمل إننا عاملون تفريع على تأييسهم الرسول من قبولهم دعوته وجعل قولهم هذا مقابل وصف القرآن بأنه بشير ونذير لظهور أنه تعين كونه نذيرا لهم بعذاب عظيم ؛ لأنهم أعرضوا فحكي ما فيه تصريحهم بأنهم لا يعبئون بنذارته فإن كان له أذى فليؤذهم به وهذا كقول فرعون 
ذروني أقتل موسى وليدع ربه   . 
وحذف مفعولا اعمل وعاملون ليعم كل ما يمكن عمله كل مع الآخر ما يناسبه . 
والأمر في قوله فاعمل مستعمل في التسوية كقول 
عنترة بن الأخرس المعني    : 
أطل حمل الشناءة لي وبغضي وعش ما شئت فانظر من تضير 
وكقوله تعالى 
اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير   . 
والخبر في قولهم 
إننا عاملون مستعمل في التهديد .