[ ص: 74 ] للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا   . 
" للفقراء " متعلق بـ " تنفقون " الأخيرة ، وتعلقه به يؤذن بتعليق معناه بنظائره المقدمة ، فما من نفقة ذكرت آنفا إلا وهي للفقراء لأن الجمل قد عضد بعضها بعضا . 
و 
الذين أحصروا أي : حبسوا وأرصدوا ، ويحتمل أن المراد بسبيل الله هنا الجهاد ، فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمنى فـ ( في ) للسببية . والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله : في سبيل الله والمعنى أنهم أحقاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد ، وإن كانوا قوما بصدد القتال يحتاجون للمعونة ، فـ ( في ) للظرفية المجازية ، وإن كان المراد بهم 
أهل الصفة  ، وهم فقراء 
المهاجرين  الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم 
بمكة  وجاءوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة ، فمعنى أحصروا في سبيل الله : عيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة ، فـ ( في ) للتعليل ، وقد قيل : إن 
أهل الصفة  كانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه فسبيل الله هو الجهاد ، ومعنى 
أحصروا على هذا الوجه أرصدوا ، و ( في ) باقية على التعليل . 
والظاهر من قوله : 
لا يستطيعون ضربا في الأرض أنهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد ، والضرب في الأرض كناية عن التجر ؛ لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع ، فهو يضرب الأرض برجليه أو دابته .  
[ ص: 75 ] وجملة : 
لا يستطيعون ضربا يجوز أن تكون حالا وأن تكون بيانا لجملة " أحصروا " . 
وقوله : 
يحسبهم الجاهل أغنياء حال من الفقراء ، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنهم أغنياء ، و " من " للابتداء لأن التعفف مبدأ هذا الإحسان . 
والتعفف تكلف العفاف وهو النزاهة عما لا يليق ، وفي 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  باب 
الاستعفاف عن المسألة ، أخرج فيه حديث 
أبي سعيد    : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341343أن الأنصار  سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفد ما عنده فقال : ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله   . 
وقرأ 
نافع  وابن كثير  وأبو عمرو   nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي  وخلف  ويعقوب    ( يحسبهم ) بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين وهما لغتان . 
ومعنى 
تعرفهم بسيماهم أي بعلامة الحاجة . والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب ، وليس للرسول لأنه أعلم بحالهم ، والمخاطب بـ ( تعرفهم ) هو الذي تصدى لتطلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : 
يحسبهم الجاهل أغنياء   . 
والجملة بيان لجملة : يحسبهم الجاهل أغنياء ، كأنه قيل : فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيا ، وكيف يطلع عليهم فأحيل ذلك على مظنة المتأمل كقوله : 
إن في ذلك لآيات للمتوسمين   . 
والسيما العلامة ، مشتقة من ( سام ) الذي هو مقلوب وسم ، فأصلها وسمى ، فوزنها عفلى ، وهي في الصورة فعلى ، يدل لذلك قولهم سمة ، فإن أصلها وسمة ويقولون سيمى بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سوم إذا جعل سمة ، وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأن قلب عين الكلمة متأت بخلاف قلب فائها ، ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من ( سوم ) المقلوب ، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوم فرسه .  
[ ص: 76 ] وقوله : 
لا يسألون الناس إلحافا بيان لقوله : 
يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا لكيفية حسبانهم أغنياء في أنهم لا يسألون الناس ، وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلا أنه أخر للاهتمام بما سبقه من الحث على توسم احتياجهم بأنهم محصورون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنه المقصود من سياق الكلام . 
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحث على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلا وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء . 
والإلحاف : الإلحاح في المسألة ، ونصب على أنه مفعول مطلق مبين للنوع ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير ( يسألون ) بتأويل ملحفين ، وأيا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيد بالإلحاف ، أو المقيدون فيه بأنهم ملحفون - وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم . مع أن قوله 
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يدل على أنهم لا يسألون أصلا . وقد تأوله 
 nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج   nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري  بأن المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول 
امرئ القيس    : 
على لاحب لا يهتدى بمناره يريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنهم وصفوا بأنهم يحسبون أغنياء من التعفف ، ونظيره قوله تعالى : 
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع أي : لا شفيع أصلا ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية ، وقال 
التفتازاني    : إنما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأن شأن اللاحب أن يكون له منار ، وشأن الشفيع أن يطاع ، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضد الإلحاف - وهو الرفق والتلطف - أشبه باللازم ، أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه ، وجوز صاحب الكشاف أن يكون المعنى أنهم إن سألوا سألوا بتلطف خفيف دون إلحاف ، أي إن شأنهم أن يتعففوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأن فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول الذي جعل في الكشاف ثانيا ، وأجاب الفخر بأنه تعالى وصفهم بالتعفف فأغنى عن ذكر أنهم لا   
[ ص: 77 ] يسألون ، وتعين أن قوله : لا يسألون الناس إلحافا . تعريض بالملحفين في السؤال ، أي : زيادة فائدة في عدم السؤال .