وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي أعيد فعل ( ترى ) للاهتمام بهذه الرؤية وتهويلها كما أعيد فعل ( تلاقوا ) في قول 
وداك بن ثميل المازني    : 
رويدا بني شيبان  بعض وعيدكم تلاقوا غدا خيلي على سفـوان     تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى 
إذا ظهرت في المأزق المتداني 
 [ ص: 126 ] والعرض : أصله إظهار الشيء وإراءته للغير ، ولذلك كان قول العرب : عرضت البعير على الحوض ، معدودا عند علماء اللغة وعلماء المعاني من قبيل القلب في التركيب ، ثم تتفرع عليه إطلاقات عديدة متقاربة دقيقة تحتاج إلى تدقيق . 
ومن إطلاقاته قولهم : عرض الجند على الأمير ، وعرض الأسرى على الأمير ، وهو إمرارهم ليرى رأيه في حالهم ومعاملتهم ، وهو إطلاقه هنا على طريق الاستعارة ، استعير لفظ ( يعرضون ) لمعنى : يمر بهم مرا عاقبته التمكن منهم والحكم فيهم فكأن جهنم إذا عرضوا عليها تحكم بما أعد الله لهم من حريقها ، ويفسره قوله في سورة الأحقاف 
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها الآية . 
وقد تقدم إطلاق له آخر عند قوله تعالى : 
ثم عرضهم على الملائكة في سورة البقرة . 
وبني فعل ( يعرضون ) للمجهول لأن المقصود حصول الفعل لا تعيين فاعله . والذين يعرضون الكافرين على النار هم الملائكة كما دلت عليه آيات أخرى . 
وضمير ( عليها ) عائد إلى العذاب بتأويل أنه النار أو جهنم أو عائد إلى جهنم المعلومة من المقام . 
وانتصب ( خاشعين ) على الحال من ضمير الغيبة في ( تراهم ) لأنها رؤية بصرية . 
والخشوع معناه : التطامن وأثر انكسار النفس من استسلام واستكانة فيكون للمخافة ، وللمهابة ، وللطاعة ، وللعجز عن المقاومة . 
والخشوع مثل الخضوع إلا أن الخضوع لا يسند إلا إلى البدن فيقال : خضع فلان ، ولا يقال : خضع بصره إلا على وجه الاستعارة ، كما في قوله تعالى : 
فلا تخضعن بالقول ، وأما الخشوع فيسند إلى البدن كقوله تعالى : 
خاشعين لله في آخر سورة آل عمران . ويسند إلى بعض أعضاء البدن كقوله تعالى   
[ ص: 127 ] خشعا أبصارهم في سورة القمر ، وقوله : 
وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا في سورة طه . 
والمراد بالخشوع في هذه الآية ما يبدو عليهم من أثر المذلة والمخافة . 
فقوله : من الذل متعلق بـ ( خاشعين ) وتعلقه به يغني عن تعليقه بـ ( ينظرون ) ويفيد ما لا يفيده تعليقه به . 
و ( من ) للتعليل ، أي خاشعين خشوعا ناشئا عن الذل ، أي ليس خشوعهم لتعظيم الله والاعتراف له بالعبودية لأن ذلك الاعتقاد لم يكن من شأنهم في الدنيا . 
وجملة 
ينظرون من طرف خفي في موضع الحال من ضمير خاشعين لأن النظر من طرف خفي حالة للخاشع الذليل ، والمقصود من ذكرها تصوير حالتهم الفظيعة . 
وفي قريب من هذا المعنى قول 
النابغة  يصف سبايا : 
ينظرن شزرا إلى من جاء عن عرض     بأوجه منـكـرات الـرق أحـرار 
وقول 
جرير    : 
فغض الطرف إنك من نمير     فلا كعبا بلغت ولا كلابـا 
والطرف ، أصله مصدر ، وهو تحريك جفن العين ، يقال : طرف من باب ضرب ، أي حرك جفنه ، وقد يطلق على العين من تسمية الشيء بفعله ، ولذلك لا يثنى ولا يجمع ، قال تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم . ووصفه في هذه الآية بـ ( خفي ) يقتضي أنه أريد به حركة العين ، أي ينظرون نظرا خفيا ، أي لا حدة له فهو كمسارقة النظر ، وذلك من هول ما يرونه من العذاب ، فهم يحجمون عن مشاهدته للروع الذي يصيبهم منها ، ويبعثهم ما في الإنسان من حب الاطلاع على أن يتطلعوا لما يساقون إليه كحال الهارب الخائف ممن يتبعه ، فتراه يمعن في الجري ويلتفت وراءه الفينة بعد الفينة لينظر هل اقترب منه الذي يجري وراءه وهو في تلك الالتفاتة أفات خطوات من جريه لكن حب الاطلاع يغالبه .  
[ ص: 128 ] و ( من ) في قوله : 
من طرف خفي للابتداء المجازي . والمعنى : ينظرون نظرا منبعثا من حركة الجفن الخفية . 
وحذف مفعول ينظرون للتعميم أي ينظرون العذاب ، وينظرون أهوال الحشر وينظرون نعيم المؤمنين من طرف خفي .