صفحة جزء
[ ص: 231 ] ويقيمون الصلاة

الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام ، عدي إليه بالهمزة الدالة على الجمل ، والإقامة جعلها قائمة ، مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر . قال أيمن بن خريم الأسدي :


أقامت غزالة سوق الضراب لأهل العراقين حولا قميطا

وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع ، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود ، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازا على النشاط في قولهم قام بالأمر ، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب ، وقالوا في ضده ركدت ونامت ، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسبا لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها ، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائما ، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل وأقيموا الصلاة وهي ثالثة السور نزولا . وذكر صاحب الكشاف وجوها أخر بعيدة عن مساق الآية .

وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله يؤمنون ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية ، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية ، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغدا ، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غدا وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم . وقد حصل من إفادة المضارع التجدد [ ص: 232 ] تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح .

والصلاة اسم جامد بوزن فعلة محرك العين ( صلوة ) ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى :


تقول بنتي وقد يممت مرتحلا     يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي     جفنا فإن لجنب المرء مضطجعا

وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى :

يراوح من صلوات الملي     ك طورا سجودا وطورا جؤارا

فأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم .

قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات ، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيئة قال النابغة :


أو درة صدفية غواصها     بهج متى يرها يهل ويسجد

وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت اهـ .

قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال ربنا ليقيموا الصلاة وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة ، وسموا كنيستهم صلاة ، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دفن النعمان بن الحارث الغساني :


فآب مصلوه بعين جلية     وغودر بالجولان حزم ونايل

[ ص: 233 ] على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان ، إذ قد كان منتصرا ومنه البيت السابق . وعرفوا السجود . قال النابغة :


أو درة صدفية غواصها     بهج متى يرها يهل ويسجد

وقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة ، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عجب الذنب فيكتنفه فيقال حينئذ هما صلوان ، ولما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أنف من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان ، وقولها " زوجي إذا دخل فهد وإذا خرج أسد " والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفا لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد .

وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل ، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلى الفرس إذا جاء معاقبا للمجلي في خيل الحلبة ، لأنه يجيء مزاحما له في السبق ، واضعا رأسه على صلا سابقه واشتقوا منه المصلي اسما للفرس الثاني في خيل الحلبة ، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك .

وما أورده الفخر في التفسير أن دعوى اشتقاقها من الصلوين يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة ، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل ، فإذا جوزنا أنه خفي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا اهـ .

يرده أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولا من معنى خفي لأن العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه .

[ ص: 234 ] ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل .

وأما قول الكشاف وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة .

ومصدر صلى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم . وزعم الجوهري أنه لا يقال صلى تصلية وتبعه الفيروزابادي ، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في أماليه .

وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد . والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع ، هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية ، وأن الشرع لم يستعمل لفظا إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها . وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات .

وقال صاحب الكشاف : الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان . والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية .

التالي السابق


الخدمات العلمية