صفحة جزء
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون عطف على جملة ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ، فإنها استدلال على وحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غير أهل لأن تعبد . فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيقولون : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها ، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبيء صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه . فضمير الغيبة في ما عبدناهم عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب ، وأقوام منهم يعبدون الجن ؛ قال تعالى : بل كانوا يعبدون الجن .

قال ابن مسعود كان نفر من العرب يعبدون الجن ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مليح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حي من خزاعة . فضمير جمع [ ص: 185 ] المذكر تغليب وليس عائدا إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثا فلو أرادوا الملائكة لقالوا : ما عبدناها أو : ما عبدناهن .

وهذا هو الوجه في معنى الآية . ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية ، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير ( الملائكة ) ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة : إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمليهما . وعلى هذا التفسير درج صاحب الكشاف وهو بعيد عن اللفظ لتذكير الضمير كما علمت ، ومن الواقع ؛ لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب . وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بين المشيئة والإرادة . وبين الرضا والمحبة ، فالعرب كانوا يقولون : شاء الله وإن شاء الله ، وقال طرفة :


فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد



فبنوا على ذلك تخليطا بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء ، وبين مشيئته التي قدرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها ، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدر حين كون العالم ونظمه وأقام له سننا ونواميس لا تخرج عن مدارها إلا إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى .

فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله . ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوثة بها رسله .

وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم ، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب . وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا في سورة الأنعام .

وهذا القول الصادر منهم ينتظر منه قياس استثنائي أن يقال : لو شاء الله ما [ ص: 186 ] عبدنا الأصنام ، بدليل أن الله هو المتصرف في شئوننا وشئون الخلائق ، لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فقد شاء الله أن نعبد الأصنام .

وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى : ما لهم بذلك من علم أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مقدم القياس الاستثنائي وهو : لو شاء الرحمن ما عبدناهم - مبني على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خليا عن العلم وهو اليقين ، فلذلك قال الله ما لهم بذلك أي بقولهم ذلك من علم بل هو من جهالة السفسطة واللبس .

والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله : وقالوا لو شاء الرحمن .

وجملة إن هم إلا يخرصون بيان لجملة ما لهم بذلك من علم .

والخرص : التوهم والظن الذي لا حجة فيه ؛ قال تعالى : قتل الخراصون .

التالي السابق


الخدمات العلمية