صفحة جزء
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون

قد ذكر الله في أول السورة قوله وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين . وساق بعد ذلك تذكرة بإبراهيم عليه السلام مع قومه ، وما تفرع على ذلك من أحوال أهل الشرك فلما تقضى أتبع بتنظير حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع طغاة قومه واستهزائهم بحال موسى مع فرعون وملئه ، فإن للمثل والنظائر شأنا في إبراز الحقائق وتصوير الحالين تصويرا يفضي إلى ترقب ما كان لإحدى الحالتين من عواقب أن تلحق أهل الحالة الأخرى ، فإن فرعون وملأه تلقوا موسى بالإسراف في الكفر وبالاستهزاء به وباستضعافه إذ لم يكن ذا بذخة ولا محلى بحلية الثراء وكانت مناسبة قوله : [ ص: 224 ] واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ، الآية هيأت المقام لضرب المثل بحال بعض الرسل الذين جاءوا بشريعة عظمى قبل الإسلام .

والمقصود من هذه القصة هو قوله فيها فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ، فإن المراد بالآخرين المكذبون صناديد قريش .

ومن المقصود منها بالخصوص هنا : قوله " وملئه " أي عظماء قومه فإن ذلك شبيه بحال أبي جهل وأضرابه ، وقوله فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون لأن حالهم في ذلك مشابه لحال قريش الذي أشار إليه قوله وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون ، وقوله بعد ذلك أم أنا خير من هذا الذي هو مهين لأنهم أشبهوا بذلك حال أبي جهل ونحوه في قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم إلا أن كلمة سادة قريش كانت أقرب إلى الأدب من كلمة فرعون لأن هؤلاء كان رسولهم من قومهم فلم يتركوا جانب الحياء بالمرة وفرعون كان رسوله غريبا عنهم . وقوله " فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب " لأنه مشابه لما تضمنه قول صناديد قريش على رجل من القريتين عظيم ، فإن عظمة ذينك الرجلين كانت بوفرة المال ، ولذلك لم يذكر مثله في غير هذه القصة من قصص بعثة موسى عليه السلام ، وقولهم يا أيها الساحر ادع لنا ربك وهو مضاه لقوله في قريش " هذا سحر وإنا به كافرون " ، وقوله " فأغرقناهم أجمعين " الدال على أن الله أهلكهم كلهم ، وذلك إنذار بما حصل من استئصال صناديد قريش يوم بدر .

فحصل من العبرة من هذه القصة أمران : أحدهما : أن الكفار والجهلة يتمسكون بمثل هذه الشبهة في رد فضل الفضلاء فيتمسكون بخيوط العنكبوت من الأمور العرضية التي لا أثر لها في قيمة النفوس الزكية .

وثانيهما : أن فرعون صاحب العظمة الدنيوية المحضة صار مقهورا مغلوبا انتصر عليه الذي استضعفه ، وتقدم نظير هذه الآية غير مرة .

[ ص: 225 ] و ( إذا ) حرف مفاجأة ، أي يدل على أن ما بعده حصل من غير ترقب فتفتتح به الجملة التي يفاد منها حصول حادث على وجه المفاجأة .

ووقعت الجملة التي فيها ( إذا ) جوابا لحرف ( لما ) ، وهي جملة اسمية و ( لما ) تقتضي أن يكون جوابها جملة فعلية ، لأن ما في ( إذا ) من معنى المفاجأة يقوم مقام الجملة الفعلية .

والضحك : كناية عن الاستخفاف بالآيات والتكذيب فلا يتعين أن يكون كل الحاضرين صدر منهم ضحك ، ولا أن ذلك وقع عند رؤية آية إذ لعل بعضها لا يقتضي الضحك .

التالي السابق


الخدمات العلمية