صفحة جزء
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .

استئناف نشأ عن قوله : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم إذ كانت إضافة أموال وأولاد إلى ضمير " هم " دالة على أنها معلومة للمسلمين ، قصد منه عظة المسلمين ألا يغتروا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمم بما به الفوز في الآخرة ، فإن التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات ، وقد صدر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشد الحذر منها ; لأن ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .

[ ص: 179 ] والتزيين تصيير الشيء زينا أي حسنا ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالة ما يعتريه من القبح أو التشويه ، ولذلك سمي الحلاق مزينا .

وقال امرؤ القيس :


الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول

فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : تريد زينة الحياة الدنيا . وكلمة " زين " قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنها وخفتها ؛ قال عمر بن أبي ربيعة :


أزمعت خلتي مع الفجر بينا     جلل الله ذلك الوجه زينـا

وفي حديث سنن أبي داود : أن أبا برزة الأسلمي دخل على عبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض - فلما دخل أبو برزة قال عبيد الله لجلسائه : إن محمديكم هذا الدحداح . قال أبو برزة : ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيرونني بصحبة محمد . فقال عبيد الله : إن صحبة محمد لك زين غير شين .

والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر " شهي " كرضي ، والشهوة بزنة المرة ، وأكثر استعمال مصدر " شهي " أن يكون بزنة المرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف ، وتعليق التزيين بالحب جرى على خلاف مقتضى الظاهر ; لأن المزين للناس هو الشهوات ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبها ، فإذا زينت لهم أحبوها ; فإن الحب ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحب بمزين ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبوها ، وقد سكت المفسرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .

والوجه عندي إما أن يجعل حب الشهوات مصدرا نائبا عن مفعول مطلق ، مبينا لنوع التزيين : أي زين لهم تزيين حب ، وهو أشد التزيين ، وجعل المفعول المطلق نائبا عن الفاعل ، وأصل الكلام : زين للناس الشهوات حبا ، فحول وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائبا عن الفاعل ، كما جعل مفعولا في قوله تعالى : فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي . وإما أن يجعل " حب " مصدرا بمعنى المفعول ، أي [ ص: 180 ] محبوب الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإما أن يجعل " زين " كناية مرادا به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزين من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسين ما ليس بخالص الحسن . فإن مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضار ، أشدها أنها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزين تغطى نقائصه بالمزينات ، وبذلك لم يبق في تعليق " زين " بـ " حب " إشكال .

وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأن ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عني بكذا ، واضطر إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عما في المزين من المساوي ; لأن الفاعل لم يبق مقصودا بحال ، والمزين في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحب الشهوات ، وذلك أمر جبلي جعله الله في نظام الخلقة ؛ قال تعالى : وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون .

ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلة ، كان فاعله على الحقيقة هو خالق هذه الجبلات ، فالمزين هو الله بخلقه لا بدعوته ، وروي مثل هذا عن عمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة كان المزين هو ميل النفس إلى المشتهى ، أو ترغيب الداعين إلى تناول الشهوات : من الخلان والقرناء ، وعن الحسن : المزين هو الشيطان ، وكأنه ذهب إلى أن التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصره على هذا - وهو بعيد - لأن تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلا إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر . فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالح الأعمال على المشتهيات المخلوطة أنواعها بحلال منها وحرام ، والمعرضة للزوال ، فإن الكمال بتزكية النفس لتبلغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ، كما أشار إليه قوله : ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .

[ ص: 181 ] وبيان الشهوات بـ النساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمة بقاء النوع بداعي طلب التناسل ; إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلف ربما تعقبه سآمة ، وفي الحديث : ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من فتنة النساء ولم يذكر الرجال لأن ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنما تحصل المحبة منهن للرجال بالإلف والإحسان .

ومحبة الأبناء - أيضا - في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين من الرجال والنساء شعورا وجدانيا يشعر بأن الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاء النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضا حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ; لأن الإنسان يعرض له الضعف بعد القوة ، فيكون ولده دافعا عنه اعتداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .

و الذهب والفضة شهوتان بحسن منظرهما وما يتخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانير والدراهم ، شهوة لما أودع الله في النفوس منذ العصور المتوغلة في القدم من حب النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .

والقناطير جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرب قيل عن الرومية - اللاتينية الشرقية - كما نقله النقاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ; فإن أصله في اللاتينية ( كينتال ) وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرب عن السريانية . فما في الكشاف في سورة النساء أن القنطار مأخوذ من قنطرت الشيء إذا رفعته - تكلف . وقد كان القنطار عند العرب وزنا ومقدارا من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ ماله مائة رطل فضة ، ويقولون : قنطر الرجل : إذا بلغ ماله قنطارا وهو اثنا عشر ألف دينار أي ما يساوي قنطارا من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب . [ ص: 182 ] و المقنطرة أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأن اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوف ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفة ، يؤذن ذلك الاشتقاق بمبالغة في الحاصل به كقولهم : ليل أليل ، وظل ظليل ، وداهية دهياء ، وشعر شاعر ، وإبل مؤبلة ، وآلاف مؤلفة .

والخيل محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم ينسها ما تفنن فيه البشر من صنوف المراكب برا وبحرا وجوا ، فالأمم المتحضرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سفائن البحر العظيمة التي تسيرها آلات البخار ، ومن السيارات الصغيرة المسيرة باللوالب تحركها حرارة النفط المصفى ، ومن الطيارات في الهواء مما لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كل ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجر العربات بمطهمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .

وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البذخ على محبة ركوبها ، قال امرؤ القيس :


كأني لم أركب جوادا للذة

و المسومة الأظهر فيه ما قيل : إنه الراعية ، فهو مشتق من السوم وهو الرعي ، يقال : أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى ، فتكون مادة " فعل " للتكثير أي التي تترك في المراعي مددا طويلة وإنما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض . وفي الحديث في ذكر الخيل ( فأطال لها في مرج أو روضة ) .

وقيل : المسومة من السومة - بضم السين - وهي السمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنما يجعلون لها ذلك تنويها بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العتابي :


ولولاهن قد سومت مهـري     وفي الرحمن للضعفاء كاف

يريد جعلت له سومة أفراس الجهاد أي علامتها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : تعرفهم بسيماهم في سورة البقرة .

والأنعام زينة لأهل الوبر قال تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء [ ص: 183 ] الآيات في سورة النحل ، وقد لا تتعلق شهوات أهل المدن بشدة الإقبال على الأنعام لكنهم يحبون مشاهدها ، ويعنون بالارتياح إليها إجمالا .

والحرث أصله مصدر حرث الأرض : إذا شقها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المحروث فصار يطلق على الجنات والحوائط وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : نساؤكم حرث لكم في سورة البقرة وعند قوله : ولا تسقي الحرث فيها .

والإشارة بقوله : ذلك متاع الحياة الدنيا إلى جميع ما تقدم ذكره . وأفرد كاف الخطاب لأن الخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - أو لغير معين ، على أن علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البعد ، والبعد هنا بعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .

والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .

ومعنى والله عنده حسن المآب أن ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدر ، مفعل من آب يئوب ، وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفا ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية