صفحة جزء
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب عطف وما اختلف الذين أوتوا الكتاب على قوله : إن الدين عند الله الإسلام للإخبار عن حال أهل الكتاب من سوء تلقيهم لدين الإسلام ، ومن سوء فهمهم في دينهم .

[ ص: 197 ] وجيء في هذا الإخبار بطريقة مؤذنة بورود سؤال ; إذ قد جيء بصيغة الحصر لبيان سبب اختلافهم ، وكأن اختلافهم أمر معلوم للسامع . وهذا أسلوب عجيب في الإخبار عن حالهم إخبارا يتضمن بيان سببه ، وإبطال ما يتراءى من الأسباب غير ذلك ، مع إظهار المقابلة بين حال الدين الذي هم عليه يومئذ من الاختلاف ، وبين سلامة الإسلام من ذلك .

وذلك أن قوله : إن الدين عند الله الإسلام قد آذن بأن غيره من الأديان لم يبلغ مرتبة الكمال والصلاحية للعموم والدوام ، قبل التغيير ، بله ما طرأ عليها من التغيير وسوء التأويل ، إلى يوم مجيء الإسلام ، ليعلم السامعون أن ما عليه أهل الكتاب لم يصل إلى أكمل مراد الله من الخلق على أنه وقع فيه التغيير والاختلاف ، وأن سبب ذلك الاختلاف هو البغي بعدما جاءهم العلم ، مع التنبيه على أن سبب بطلان ما هم عليه يومئذ هو اختلافهم وتغييرهم ، ومن جملة ما بدلوه الآيات الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وفيه تنبيه على أن الإسلام بعيد عن مثل ما وقعوا فيه من التحريف ، كما تقدم في المظهر التاسع ، ومن ثم ذم علماؤنا التأويلات البعيدة ، والتي لم يدع إليها داع صريح .

وقد جاءت الآية على نظم عجيب يشتمل على معان : منها التحذير من الاختلاف في الدين ، أي في أصوله ، ووجوب تطلب المعاني التي لا تناقض مقصد الدين ، عبرة بما طرأ على أهل الكتاب من الاختلاف .

ومنها التنبيه على أن اختلاف أهل الكتاب حصل مع قيام أسباب العلم بالحق ، فهو تعريض بأنهم أساءوا فهم الدين .

ومنها الإشارة إلى أن الاختلاف الحاصل في أهل الكتاب نوعان : أحدهما اختلاف كل أمة مع الأخرى في صحة دينها كما قال تعالى : وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ، وثانيهما اختلاف كل أمة منهما فيما بينها وافتراقها فرقا متباينة المنازع . كما جاء في الحديث اختلفت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة يحذر المسلمين مما صنعوا .

ومنها أن اختلافهم ناشئ عن بغي بعضهم على بعض .

[ ص: 198 ] ومنها أنهم أجمعوا على مخالفة الإسلام والإعراض عنه بغيا منهم وحسدا ، مع ظهور أحقيته عند علمائهم وأحبارهم كما قال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين وقال تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق أي أعرضوا عن الإسلام ، وصمموا على البقاء على دينهم ، وودوا لو يردونكم إلى الشرك أو إلى متابعة دينهم ، حسدا على ما جاءكم من الهدى بعد أن تبين لهم أنه الحق .

ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حذف متعلق الاختلاف في قوله : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ليشمل كل اختلاف منهم : من مخالفة بعضهم بعضا في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كل دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحة الدين .

وحذف متعلق العلم في قوله : من بعد ما جاءهم العلم لذلك .

وجعل " بغيا " عقب قوله : من بعد ما جاءهم العلم ليتنازعه كل من فعل " اختلف " ومن لفظ " العلم " .

وأخر " بينهم " عن جميع ما يصلح للتعليق به : ليتنازعه كل من فعل " اختلف " وفعل " جاءهم " ولفظ " العلم " ولفظ " بغيا " .

وبذلك تعلم أن معنى هذه الآية أوسع معاني من معاني قوله تعالى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم في سورة البقرة ، وقوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة في سورة البينة كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين .

فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم : أي اختلاف أهل كل ملة في أمور دينهم ، وهذا هو الذي تشعر به صيغة " اختلف " كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرة ، واختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يهوذا ، وكيف صار لكل مملكة من المملكتين تدين يخالف تدين الأخرى ، وكذلك [ ص: 199 ] اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله " بينهم " حالا لـ " بغيا " : أي بغيا متفشيا بينهم ، بأن بغى كل فريق على الآخر .

ويشمل أيضا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام ; إذ قال قائل منهم : هو حق ، وقال فريق : هو مرسل إلى الأميين ، وكفر فريق ، ونافق فريق . وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ، ويكون قوله " بينهم " على هذا وصفا لـ " بغيا " : أي بغيا واقعا بينهم .

ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم ; لأن كلمة " جاء " مؤذنة بعلم متلقى من الله تعالى ، يعني أن العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدهم عن الاختلاف في المراد ، إلا أنهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى .

وانتصب " بغيا " على أنه مفعول لأجله ، وعامل المفعول لأجله : هو الفعل الذي تفرغ للعمل فيما بعد حرف الاستثناء ، فالاستثناء كان من أزمان وعلل محذوفة . والتقدير : ما اختلفوا إلا في زمن بعدما جاءهم العلم وما كان إلا بغيا بينهم . ولك أن تجعل " بغيا " منصوبا على الحال من الذين أوتوا الكتاب ، وهو إن كان العامل فيه فعلا منفيا في اللفظ إلا أن الاستثناء المفرغ جعله في قوة المثبت ، فجاء الحال منه عقب ذلك ، أي حال كون المختلفين باغين ، فالمصدر مؤول بالمشتق . ويجوز أن تجعله مفعولا لأجله من " اختلف " باعتبار كونه صار مثبتا كما قررنا .

وقد لمحت الآية إلى أن هذا الاختلاف والبغي كفر ; لأنه أفضى بهم إلى نقض قواعد أديانهم ، وإلى نكران دين الإسلام ، ولذلك ذيله بقوله : ومن يكفر بآيات الله إلخ .

وقوله : فإن الله سريع الحساب تعريض بالتهديد ; لأن سريع الحساب إنما يبتدئ بحساب من يكفر بآياته ، و الحساب هنا كناية عن الجزاء كقوله : إن حسابهم إلا على ربي .

وفي ذكر هذه الأحوال الذميمة من أحوال أهل الكتاب تحذير للمسلمين أن يقعوا في مثل ما وقع فيه أولئك ، والمسلمون وإن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلا [ ص: 200 ] اختلافا علميا فرعيا ، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم بل غاية الكل الوصول إلى الحق من الدين ، وخدمة مقاصد الشريعة . فبنو إسرائيل عبدوا العجل والرسول بين ظهرانيهم ، وعبدوا آلهة الأمم غير مرة ، والنصارى عبدوا مريم والمسيح ، ونقضوا أصول التوحيد ، وادعوا حلول الخالق في المخلوق . فأما المسلمون لما قال أحد أهل التصوف منهم كلاما يوهم الحلول حكم علماؤهم بقتله .

التالي السابق


الخدمات العلمية