إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين   . 
استئناف لبيان بعض 
أحوال اليهود  المنافية إسلام الوجه لله ، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص 
اليهود  ، وهم قد عرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة   
[ ص: 206 ] من القرآن . والمناسبة : جريان الجدال مع 
النصارى  وأن جعلوا جميعا في قرن قوله : 
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم   . 
وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظيعة ، وليس المراد إفادة التجدد ; لأن ذلك وإن تأتى في قوله : يكفرون لا يتأتى في قوله : 
ويقتلون لأنهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمن مضى . والمراد من أصحاب هذه الصلات 
يهود العصر النبوي  لأنهم الذين توعدهم بعذاب أليم ، وإنما حمل هؤلاء تبعة أسلافهم لأنهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم الذين 
قتلوا زكريا  لأنه حاول تخليص ابنه يحيى  من القتل ، وقتلوا يحيى  لإيمانه بعيسى ،  وقتلوا النبيء 
إرمياء  بمصر ،  وقتلوا 
حزقيال  النبيء لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم ، وزعموا أنهم قتلوا 
عيسى  عليه السلام ، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه ، وقتل 
منشا بن حزقيال ،  ملك إسرائيل  ، النبيء 
أشعياء    : نشره بالمنشار لأنه نهاه عن المنكر ، بمرأى ومسمع من 
بني إسرائيل  ، ولم يحموه ، فكان هذا القتل معدودا عليهم ، وكم قتلوا ممن يأمرون بالقسط ، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم ; لأنهم رضوا بها ، وألحوا في وقوعها . 
وقوله : 
بغير حق ظرف مستقر في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة يقتلون النبيئين إذ لا يكون قتل النبيئين إلا بغير حق ، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحتراز ; فإنه لا يقتل نبيء بحق ، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه ، وإنما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حيز النفي ، إذا لم يكن المقصود تسلط النفي عليه مثل قوله تعالى : 
لا يسألون الناس إلحافا   . وقوله : 
ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وقد تقدم في سورة البقرة . 
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم . 
ولما كان قوله : 
ويقتلون الذين يأمرون بالقسط مومئا إلى وجه بناء الخبر : وهو أنهم إنما قتلوهم لأنهم يأمرون بالقسط أي بالحق ، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة ، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع .  
[ ص: 207 ] وقرأ الجمهور من العشرة " يقتلون " الثاني مثل الأول - بسكون القاف - وقرأه 
حمزة  وحده : " ويقاتلون " - بفتح القاف بعدها ألف - بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل . 
والفاء في 
فبشرهم فاء الجواب المستعملة في شرط ، دخلت على خبر " إن " لأن اسم إن وهو موصول تضمن معنى الشرط ، إشارة إلى أنه ليس المقصود قوما معينين ، بل كل من يتصف بالصفة فجزاؤه أن يعلم أن له عذابا أليما . واستعمل " بشرهم " في معنى " أنذرهم " تهكما . 
وحقيقة التبشير : الإخبار بما يظهر سرور المخبر - بفتح الباء - وهو هنا مستعمل في ضد حقيقته ، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب ، وهو موجب لحزن المخبرين ، فهذا الاستعمال في الضد معدود عند علماء البيان من الاستعارة ، ويسمونها تهكمية لأن تشبيه الضد بضده لا يروج في عقل أحد إلا على معنى التهكم ، أو التمليح ، كما أطلق 
عمرو ابن كلثوم  اسم الأضياف على الأعداء ، وأطلق القرى على قتل الأعداء ، في قوله : 
نزلتم منزل الأضياف منا فعجلنا القرى أن تشتمونا     قريناكم فعجلنا قـراكـم 
قبيل الصبح مرداة طحونا 
قال 
السكاكي    : وذلك بواسطة انتزاع شبه التضاد وإلحاقه بشبه التناسب . 
وجيء باسم الإشارة في قوله : 
أولئك الذين حبطت أعمالهم لأنهم تميزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صلات الموصول أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحقاء بما سيخبر به عنهم بعد اسم الإشارة . 
واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره 
الذين حبطت أعمالهم ، وقيل هو خبر " إن " وجملة 
فبشرهم بعذاب أليم وهو الجاري على مذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  لأنه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقا . 
وحبط الأعمال إزالة آثارها النافعة من ثواب ونعيم الآخرة ، وحياة طيبة في الدنيا   . وإطلاق الحبط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحبط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل ، يكون سبب موتها ، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به .  
[ ص: 208 ] وتقدم عند قوله تعالى : 
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة في سورة البقرة . 
والمعنى هنا أن 
اليهود  لما كانوا متدينين يرجون من أعمالهم الصالحة النفع بها في الآخرة بالنجاة من العقاب ، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين ، فلما 
كفروا بآيات الله ، وجحدوا نبوءة محمد    - صلى الله عليه وسلم - وصوبوا الذين قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط ، فقد ارتدوا عن دينهم فاستحقوا العذاب الأليم ، ولذلك ابتدئ به بقوله : 
فبشرهم بعذاب أليم   . فلا جرم تحبط أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة ، ولا بآثارها الطيبة في الدنيا ، ومعنى 
وما لهم من ناصرين ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به . 
وجيء بـ " من " الدالة على تنصيص العموم لئلا يترك لهم مدخل إلى التأويل .