صفحة جزء
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين .

تفريع على قوله : الحق من ربك فلا تكن من الممترين لما فيه من إيماء إلى أن وفد نجران ممترون في هذا الذي بين الله لهم في هذه الآيات : أي فإن استمروا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة . ذلك أن تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم ، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة ، وقلة يقين ، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا .

و " تعالوا " اسم فعل لطلب القدوم ، وهو في الأصل أمر من تعالى يتعالى إذا قصد العلو ، فكأنهم أرادوا في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو ، ثم شاع [ ص: 265 ] حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور ، وأجريت عليه أحوال اسم الفعل فهو مبني على فتح آخره ، وأما قول أبي فراس الحمداني :


أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي

فقد لحنوه فيه .

ومعنى تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ائتوا وادعوا أبناءكم ونحن ندعو أبناءنا إلى آخره ، والمقصود هو قوله : ثم نبتهل إلى آخره .

و " ثم " هنا للتراخي الرتبي .

والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأن الداعي باللعن يجتهد في دعائه ، والمراد في الآية المعنى الأول .

ومعنى فنجعل لعنة الله فندع بإيقاع اللعنة على الكاذبين . وهذا الدعاء إلى المباهلة إلجاء لهم إلى أن يعترفوا بالحق أو يكفوا . روى المفسرون وأهل السيرة أن وفد نجران لما دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملاعنة قال لهم العاقب : لا نلاعنه ، فوالله لئن كان نبيئا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا . فلم يجيبوا إلى المباهلة وعدلوا إلى المصالحة كما سيأتي .

وهذه المباهلة لعلها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبيء - صلى الله عليه وسلم - لإقامة الحجة عليهم .

وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء : لأنه لما ظهرت مكابرتهم في الحق وحب الدنيا ، علم أن من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحب إليه من الحق كما قال شعيب : أرهطي أعز عليكم من الله وأنه يخشى سوء العيش وفقدان الأهل ، ولا يخشى عذاب الآخرة .

والظاهر أن المراد بضمير المتكلم المشارك أنه عائد إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين ، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللائي كن معهم .

[ ص: 266 ] والنساء : الأزواج لا محالة ، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا ورد غير مضاف ، قال تعالى : يا نساء النبيء لستن كأحد من النساء وقال : ونساء المؤمنين ، وقال النابغة :


حذارا على أن لا تنال مقادتي     ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم ، وأما الأبناء فيحتمل أن المراد شبانهم ، ويحتمل أنه يشمل الصبيان ، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة .

والابتهال افتعال من البهل ، وهو اللعن ، يقال : بهله الله بمعنى لعنه واللعنة بهلة وبهلة بالضم والفتح ، ثم استعمل الابتهال مجازا مشهورا في مطلق الدعاء ، قال الأعشى :


لا تقعدن وقد أكلتها حطبـا     تعوذ من شرها يوما وتبتهل

وهو المراد هنا بدليل أنه فرع عليه قوله : فنجعل لعنة الله على الكاذبين .

وهذه دعوة إنصاف لا يدعو لها إلا واثق بأنه على الحق . وهذه المباهلة لم تقع لأن نصارى نجران لم يستجيبوا إليها . وقد روى أبو نعيم في الدلائل أن النبيء هيأ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ليصحبهم معه للمباهلة . ولم يذكروا فيه إحضار نسائه ولا إحضار بعض المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية