صفحة جزء
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيء والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .

استئناف ناشئ عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم ، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به ، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون : نحن أولى بدينكم .

و " أولى " اسم تفضيل أي أشد وليا أي قربا مشتق من ولي إذا صار وليا ، وعدي بالباء لتضمنه معنى الاتصال أي أخص الناس بإبراهيم وأقربهم منه . ومن المفسرين من جعل " أولى " هنا بمعنى أجدر فيضطر إلى تقدير مضاف قبل قوله " بإبراهيم " أي بدين إبراهيم .

والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته : مثل لوط وإسماعيل وإسحاق ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها ، مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمية بن أبي الصلت ، وأبيه أبي الصلت ، وأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني النجار ، وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفا ، وفي صحيح البخاري : أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين فلقي عالما من اليهود ، فسأله عن دينه فقال له : إني أريد أن أكون على دينك ، فقال اليهودي : إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، قال زيد : أفر إلا من غضب الله ، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع ، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا ؟ قال : لا أعلمه إلا أن تكون حنيفا ، قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا [ ص: 277 ] نصرانيا لا يعبد إلا الله ، فخرج من عنده فلقي عالما من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي ، غير أن النصراني قال : أن تأخذ بنصيبك من لعنة الله ، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم ، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء وقال : اللهم اشهد أني على دين إبراهيم وهذه أمنية منه لا تصادف الواقع . وفي صحيح البخاري ، عن أسماء بنت أبي بكر : قالت : رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قبل الإسلام مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري وفيه أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبيء - صلى الله عليه وسلم - الوحي فقدمت إلى النبيء سفرة فأبى زيد بن عمرو أن يأكل منها وقال : إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهم منه أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - يفعل كما تفعل قريش . وإن زيدا كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله .

واسم الإشارة في قوله وهذا النبيء مستعمل مجازا في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث : فجعل الفراش وهذه الدواب تقع في النار فالإشارة استعملت في استحضار الدواب المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها ، والنبيء ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية حينئذ ، ولا قصدت الإشارة إلى ذاته . ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبيء هو الناطق بهذا الكلام ، فهو كقول الشاعر :

نجوت وهذا تحملين طليق

أي والمتكلم الذي تحملينه . والاسم الواقع بعد اسم الإشارة ، بدلا منه ، هو الذي يعين جهة الإشارة ما هي . وعطف النبيء على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أن متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنه موافق لها في أصولها . والمراد بالذين آمنوا المسلمون . فالمقصود معناه اللقبي ، فإن وصف الذين آمنوا صار لقبا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيا أيها الذين آمنوا .

ووجه كون هذا النبيء والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم ، مثل الذين اتبعوه ، أنهم قد تخلقوا بأصول شرعه ، وعرفوا قدره ، وكانوا له لسان صدق دائبا بذكره ، [ ص: 278 ] فهؤلاء أحق به ممن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون ، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه ، وهم اليهود والنصارى ، ومن هذا المعنى قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما سأل عن صوم اليهود يوم عاشوراء فقالوا : هو يوم نجى الله فيه موسى فقال : نحن أحق بموسى منهم وصامه وأمر المسلمين بصومه .

وقوله : والله ولي المؤمنين تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم ، والله ولي إبراهيم ، والذين اتبعوه ، وهذا النبيء ، والذين آمنوا ; لأن التذييل يشمل المذيل قطعا ، ثم يشمل غيره تكميلا كالعام على سبب خاص . وفي قوله : والله ولي المؤمنين بعد قوله : ما كان إبراهيم يهوديا تعريض بأن الذين لم يكن إبراهيم ليس منهم ليسوا بمؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية