صفحة جزء
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة .

هذا انتقال إلى وضح بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاءوا إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولكنها تبرز من مشاهدتهم ، فكان الوضح الأول مفتتحا ب إذا جاءك المنافقون وهذا الوضح مفتتحا ب إذا رأيتهم .

فجملة وإذا رأيتهم معطوفة على جملة فهم لا يفقهون واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم .

واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية :

لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ جسم البغال وأحلام العصافير

وتفيد مع الاحتراس تنبيها على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من [ ص: 239 ] الجملتين لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي . ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالا وهما نقيصتان لعدم تناسقهما مع ما شأنه أن يكون كمالا . فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فربما انقلب الحسن موجب نقص .

فالخطاب في هذه الآية لغير معين يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغره صورهم فلا يدخل فيه النبيء - صلى الله عليه وسلم - لأن الله قد أطلعه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة الكهف لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معين أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور . وعن ابن عباس كان ابن أبي جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان . وقال الكلبي : المراد ابن أبي والجد بن قيس ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة . وقال في الكشاف : وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أبي رؤساء المدينة .

وأجسام : جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإشارة إليه أو ما له طول وعرض وعمق . وتقدم في قوله تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم في سورة البقرة . وجملة وإن يقولوا تسمع لقولهم معترضة بين جملة وإذا رأيتهم إلخ وبين جملة كأنهم خشب مسندة .

والمراد بالسماع في قوله تسمع لقولهم الإصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين .

فاللام في قوله لقولهم لتضمين ( تسمع ) معنى : تصغ أيها السامع ، إذ ليس في الإخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإصغاء لوعي كلامهم .

وجملة كأنهم خشب مسندة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال ينشأ عن وصف حسن أجسامهم وذلاقة كلامهم ، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يرد بعد هذا الوصف .

[ ص: 240 ] ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضميري الغيبة في قوله رأيتهم تعجبك أجسامهم .

ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين .

و ( خشب ) بضم الخاء وضم الشين جمع خشبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثمرة ، وقيل ثمر جمع ثمار الذي هو جمع ثمرة فيكون ثمر جمع جمع . فيكون خشب على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع مفرد . ويقال خشب بضم فسكون وهو جمع خشبة لا محالة ، مثل : بدن جمع بدنة .

وقرأه الجمهور بضمتين . وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بضمة فسكون .

والمسندة التي سندت إلى حائط أو نحوه ، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سقف ولا مشدود بها جدار . شبهوا بالخشب المسندة تشبيه التمثيل في حسن المرأى وعدم الجدوى ، أفيد بها أن أجسامهم المعجب بها ومقالهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخلو الخشب المسندة عن الفائدة ، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لب وشجاعة وعلم ودراية . وإذا اختبرتموهم وجدتموهم على خلاف ذلك فلا تحتفلوا بهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية