صفحة جزء
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم .

أشكل موقع هذه الآية بعد سابقتها وصف نظمها ، ومصرف معناها إلى أي فريق . وقال القرطبي : إنها أشكل آية في هذه السورة . وذكر ابن عطية وجوها ثمانية . ترجع إلى احتمالين أصليين .

الاحتمال الأول أنها تكملة لمحاورة الطائفة من أهل الكتاب بعضهم بعضا ، وأن جملة قل إن الهدى هدى الله معترضة في أثناء ذلك الحوار ، وعلى هذا الاحتمال تأتي وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين ، أحدهما : أنهم أرادوا تعليل قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة ، واستحالة بعثة رسول بعد موسى ، وأنه يقدر لام تعليل محذوف قبل أن المصدرية وهو حذف شائع مثله . ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد أن يدل عليه السياق ويقتضيه لفظ " أحد " المراد منه شمول كل أحد : لأن ذلك اللفظ لا يستعمل مرادا منه الشمول إلا في سياق النفي ، وما في معنى النفي مثل استفهام الإنكار ، فأما إذا استعمل " أحد " في الكلام الموجب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحدة ، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية .

فتقدير الكلام : لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . وحذف حرف النفي بعد لام التعليل ، ظاهرة ومقدرة ، كثير في الكلام ، ومنه قوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا أي لئلا تضلوا .

والمعنى : أن قصدهم من هذا الكلام تثبيت أنفسهم على ملازمة دين اليهودية ، لأن اليهود لا يجوزون نسخ أحكام الله ويتوهمون أن النسخ يقتضي البداء .

[ ص: 282 ] الوجه الثاني : أنهم أرادوا إنكار أن يؤتى أحد النبوة كما أوتيها أنبياء بني إسرائيل ، فيكون الكلام استفهاما إنكاريا حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق ; ويؤيده قراءة ابن كثير قوله أن يؤتى أحد بهمزتين .

وأما قوله : أو يحاجوكم عند ربكم فحرف " أو " فيه للتقسيم مثل ولا تطع منهم آثما أو كفورا ، وما بعد " أو " معطوف على النفي ، أو على الاستفهام الإنكاري على اختلاف التقديرين ، والمعنى : ولا يحاجوكم عند ربكم أو وكيف يحاجوكم عند ربكم ، أي لا حجة لهم عليكم عند الله .

واو الجمع في يحاجوكم ضمير عائد إلى " أحد " لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار .

وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأن الله حرمهم التوفيق .

الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن يقوله لهم بقية لقوله : إن الهدى هدى الله .

والكلام على هذا رد على قولهم : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وقولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم على طريقة اللف والنشر المعكوس ، فقوله : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إبطال لقولهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أي قلتم ذلك حسدا من أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وقوله : أو يحاجوكم رد لقولهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره على طريقة التهكم ، أي مرادكم التنصل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة ، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون ، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون ، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية ، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله : أو يحاجوكم عائد إلى الذين آمنوا . وهذا الاحتمال أنسب نظما بقوله تعالى : قل إن الفضل بيد الله ليكون لكل كلام حكي عنهم تلقين جواب عنه : فجواب قولهم : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا الآية ، قوله : قل إن الهدى هدى الله . وجواب قولهم : ولا تؤمنوا إلخ ، قوله : قل إن الفضل بيد الله [ ص: 283 ] إلخ . فهذا ملاك الوجوه ، ولا نطيل باستيعابها إذ ليس من غرضنا في هذا التفسير .

وكلمة " أحد " اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلا في حيز النفي فيفيد العموم مثل عريب وديار ونحوهما وندر وقوعه في حيز الإيجاب ، وهمزته مبدلة من الواو وأصله " وحد " بمعنى واحد ويرد وصفا بمعنى واحد .

وقرأ الجمهور أن يؤتى أحد بهمزة واحدة هي جزء من حرف أن . وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف أن وسهل الهمزة الثانية .

التالي السابق


الخدمات العلمية