صفحة جزء
ولا تطع كل حلاف إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين ، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال : ولا كل حلاف ، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى .

وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله سنسمه على الخرطوم على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين .

وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني :


أيا ابن زيابة إن تلقـنـي لا تلقني في النعم العازب     وتلقني يشتد بـي أجـرد
مستقدم البركة كالراكب

فلم يكتف بعطف : ب ( بل ) أو ( لكن ) بأن يقول : بل تلقني يشتد بي أجرد ، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد ، وعدل عن ذلك فأعاد فعل ( تلقني ) .

وكلمة ( كل ) موضوعة لإفادة الشمول والإحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه ، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها ( كل ) بالمباشرة وبالنعوت .

وقد وقعت كلمة ( كل ) معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي ؛ إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على [ ص: 71 ] أساليب الاستعمال ، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بله من اجتمع له عدة منها .

وفي هذا ما يبطل ما أصله الشيخ عبد القادر في دلائل الإعجاز من الفرق بين أن تقع ( كل ) في حيز النفي ، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيف إليه ( كل ) إن كانت ( كل ) مسندا إليها ، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيف إليه ( كل ) إن كانت معمولة للمنفي أو المنهي عنه ، وبين أن تقع ( كل ) في غير حيز النفي ، وجعل رفع لفظ ( كله ) في قول أبي النجم :


قد أصبحت أم الخيار تدعي     علي ذنبا كله لم أصـنـع

متعينا ؛ لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب ، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرح بإبطاله العلامة التفتازاني في المطول ، واستشهد للإبطال بقوله تعالى والله لا يحب كل كفار أثيم وقوله ولا تطع كل حلاف مهين .

وأجريت على المنهي عن الإطاعة بهذه الصفات الذميمة ؛ لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا ؛ إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلا بسوء .

قال جمع من المفسرين المراد بالحلاف المهين : الوليد بن المغيرة ، وقال بعضهم : الأخنس بن شريق ، وقال آخرون : الأسود بن عبد يغوث ، ومن المفسرين من قال : المراد أبو جهل ، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء ، وإلا فإن لفظ ( كل ) المفيد للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين ، وأما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم .

وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها ، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن الذي ختم بها قوله إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ، لكن الذي قال في القرآن ( إنه أساطير الأولين ) هو الوليد بن المغيرة ، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة ، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ، ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية وقالوا أساطير الأولين .

[ ص: 72 ] وذكرت عشر خلال من مذامهم التي تخلقوا بها : الأولى حلاف ، والحلاف : المكثر من الأيمان على وعوده وأخباره ، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث ، وإلا لم يكن ذمه بهذه المثابة ، ومن المفسرين من جعل ( مهين ) قيدا ل ( حلاف ) على جعل النهي عن طاعة صاحب الوصف مجتمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية