صفحة جزء
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصرهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون

[ ص: 97 ] يجوز أن يكون يوم يكشف متعلقا بقوله فليأتوا بشركائهم أي فليأتوا بالمزعومين يوم القيامة . وهذا من حسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم .

ويجوز أن يكون استئنافا متعلقا بمحذوف تقديره : اذكر يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود إلخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم .

وعلى كلا الوجهين في تعلق ( يوم ) فالمراد باليوم يوم القيامة .

والكشف عن ساق : مثل لشدة الحال وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال : شمر عن ساعد الجد ، وأيضا كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادة ، فيقال : كشفت عن ساقها أو شمرت عن ساقها ، أو أبدت عن ساقها . قال عبد الله بن قيس الرقيات :


كيف نومي على الفراش ولما تشمل الشام غارة شـعـواء     تذهل الشيخ عن بنيه وتبـدي
عن خدام العقيلة الـعـذراء

وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك : انهزم الناس عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ، إلخ ، فإذا قالوا : كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساق . وإذا قالوا : كشف الأمر عن ساق ، فقد مثلوه بالمرأة المروعة ، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها ، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم :


فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها     وإن شمرت عن ساقها الحـرب شـمـرا

وقال جد طرفة من الحماسة :


كشفت لهم عن ساقها     وبدا من الشر البواح

وقرأ ابن عباس ( يوم تكشف ) بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير [ ص: 98 ] تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة ، وقريب من هذا قولهم : قامت الحرب على ساق .

والمعنى : يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروع ، قال ابن عباس : يكشف عن ساق : عن كرب وشدة ، وهي أشد ساعة في يوم القيامة .

وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا ، فقال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :


صبرا عنـاق إنـه لـشـربـاق     قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق

وقال مجاهد : يكشف عن ساق : شدة الأمر .

وجملة ( ويدعون ) ليس عائدا إلى المشركين مثل ضمير إنا بلوناهم إذ لا يساعد قوله وقد كانوا يدعون إلى السجود فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يدعون إلى السجود . فالوجه أن يكون عائدا إلى غير مذكور ، أي ويدعى مدعوون فيكون تعريضا بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخلص عن غيرهم تميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم . قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود : فمن كان يعبد الله مخلصا يخر ساجدا له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد اهـ . فيكون قوله تعالى ويدعون إلى السجود إدماجا لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم .

وفي صحيح مسلم من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه الحديث ، فيصلح ذلك تفسيرا لهذه الآية .

[ ص: 99 ] وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا يكشف الله عن ساقه ، أي عن مثل الرجل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه ، على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى ( عن ساق ) قال يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا .

ورويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها .

والسجود الذي يدعون إليه : سجود الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف .

وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة .

والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله تعالى يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر إلى قوله مهطعين إلى الداعي ، أو يدعو بعضهم بعضا بإلهام من الله تعالى ، وهو نظير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي " فيقول بعضهم لبعض لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من موقفنا هذا " .

وخشوع الأبصار : هيئة النظر بالعين بذلة وخوف ، استعير له وصف ( خاشعة ) ؛ لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفيا .

و ترهقهم : تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم ، رهق من باب فرح قال تعالى ( ترهقها قترة ) .

وجملة ترهقهم ذلة حال ثانية من ضمير ( يستطيعون ) .

وجملة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها ، أي كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر . والواو للحال وللاعتراض .

وجملة ( وهم سالمون ) حال من ضمير ( يدعون ) ، أي وهم قادرون لا علة تعوقهم عنه في أجسادهم . والسلامة : انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم ملجأون لعدم السجود .

التالي السابق


الخدمات العلمية