وجعلنا نومكم سباتا   . 
انتقل من الاستدلال بخلق الناس إلى الاستدلال بأحوالهم ، وخص منها الحالة التي هي أقوى أحوالهم المعروفة شبها بالموت الذي يعقبه البعث ، وهي حالة متكررة لا يخلون من الشعور بما فيها من العبرة ; لأن تدبير نظام النوم وما يطرأ عليه من اليقظة أشبه حال بحال الموت وما يعقبه من البعث . 
وأوثر فعل ( جعلنا ) لأن النوم كيفية يناسبها فعل الجعل لا فعل الخلق المناسب للذوات كما تقدم في قوله : 
ألم نجعل الأرض مهادا وكذلك قوله : 
وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا   . 
فإضافة نوم إلى ضمير المخاطبين ليست للتقييد لإخراج نوم غير الإنسان ، فإن نوم الحيوان كله سبات ، ولكن الإضافة لزيادة التنبيه للاستدلال ، أي أن 
دليل البعث قائم بين في النوم الذي هو من أحوالكم ، وأيضا لأن في وصفه بسبات امتنانا ، والامتنان خاص بهم ، قال تعالى : 
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه   . 
والسبات - بضم السين وتخفيف الباء - : اسم مصدر بمعنى السبت ، أي : القطع ، أي : جعلناه لكم قطعا لعمل الجسد بحيث لا بد للبدن منه ، وإلى هذا أشار 
 nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي  ، 
وابن قتيبة  ؛ إذ جعلا المعنى : وجعلنا نومكم راحة ، فهو تفسير معنى .  
[ ص: 19 ] وإنما أوثر لفظ ( سبات ) لما فيه من الإشعار بالقطع عن العمل ليقابله قوله بعده 
وجعلنا النهار معاشا كما سيأتي . 
ويطلق السبات على النوم الخفيف ، وليس مرادا في هذه الآية ؛ إذ لا يستقيم أن يكون المعنى : وجعلنا نومكم نوما ، ولا نوما خفيفا . 
وفي تفسير 
الفخر    : طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا : السبات هو النوم ، فالمعنى : وجعلنا نومكم نوما . وأخذ في تأويلها وجوها ثلاثة من أقوال المفسرين لا يستقيم منها إلا ما قاله 
 nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي  أن السبات القطع كما قال تعالى : 
من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه وهو المعنى الأصلي لتصاريف مادة سبت . 
وأنكر 
 nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري  ، 
وابن سيده  أن يكون فعل سبت بمعنى استراح ، أي : ليس معنى اللفظ ، فمن فسر السبات بالراحة أراد تفسير حاصل المعنى . 
وفي هذا 
امتنان على الناس بخلق نظام النوم فيهم لتحصل لهم راحة من أتعاب العمل الذي يكدحون له في نهارهم ، فالله تعالى جعل النوم حاصلا للإنسان بدون اختياره ، فالنوم يلجئ الإنسان إلى قطع العمل لتحصل راحة لمجموعه العصبي الذي ركنه في الدماغ ، فبتلك الراحة يستجد العصب قواه التي أوهنها عمل الحواس وحركات الأعضاء وأعمالها ، بحيث لو تعلقت رغبة أحد بالسهر لا بد له من أن يغلبه النوم ، وذلك لطف بالإنسان بحيث يحصل له ما به منفعة مداركه قسرا عليه لئلا يتهاون به ، ولذلك قيل : إن أقل الناس نوما أقصرهم عمرا ، وكذلك الحيوان .